سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

لن تُهزم الـ«بيتكوين»

أُصيب بالصدمة الأسبوع الماضي، أولئك الذين علّقوا آمالهم على عملة «بيتكوين» الرقمية، وهم يرونها تنهار وتفقد 30 في المائة من قيمتها لتهبط من سعر 20 ألف دولار إلى 13 ألفاً فقط. والأسوأ أن العملة الافتراضية التي ظن البعض أنها ملاذه الآمن انخفضت 4500 دولار خلال 24 ساعة. هذه ليست المرة الأولى التي تهتز فيها «بيتكوين»، لكنها التجربة الأعنف للمتعاملين بها والمتحمسين لفكرتها، ولم يعودوا قلة. هكذا سنحت الفرصة لكل الذين رفضوا المبدأ وشهّروا بالعملات الرقمية أن يسنّوا أسلحتهم الحادة في دعوة لعودةٍ نصوح إلى النظام المالي التقليدي، وبنوكه المتغولة. وإذا كان البعض بريئاً وبطبيعته يخشى المغامرة، فإن بعضاً آخر يدافع عن مكاسب جمّة لا يريد أن يخسرها.
وإن كان من سمة للعصر الذي نعيش فهي «التمرد». فقد مُنحنا نحن الأفراد الصغار، بفضل التكنولوجيا، أسلحة تمكّن كلاً منا من أن يستخدمها ليتجاوز نظماً كلاسيكية حكمت حيواتنا، منذ وُلدنا، ورثناها ولم نعرف غيرها.
قبل أيام ضج لبنان بخبر مقتل دبلوماسية بريطانية خنقاً على يد سائق سيارة أجرة يعمل لصالح شركة «أوبر». هجوم جماعي عنيف شُنّ على التطبيق الافتراضي الذي يعتمده الناس بكثافة لسرعته وعمليته، ويضربون عرض الحائط بشركات معروفون أصحابها وسائقوها، تخضع للقوانين اللبنانية، فيما تفلت «أوبر» من قبضة المراقبة الرسمية، بسبب صفتها الهلامية. وكما التحذير من الـ«بيتكوين»، أُطلقت الصرخات الرسمية تنهى عن التعامل مع «أوبر». ثمة من لم يقتنع، معتبراً أن على الدولة أن تمنع أو على الشركة أن تحسّن من أدائها، وتدقق في سوابق السائقين الذين تتعامل معهم. وعلى الأرجح، بعد مرور بعض الوقت، سينسى الشبان المستعجلون دائماً، للوصول إلى الوجهة التي يريدونها، الحادثة الشنعاء ويعاودون التعامل مع التطبيق العالمي أو تطبيقات أخرى موازية ستبصر النور حتماً، بشروط أفضل.
وأياً تكن نظرتنا إلى المتغيرات، وحذرنا من شائك ما تفرضه علينا، فالتأقلم قدرنا. قبل سنتين، كانت «بيتكوين» تثير السخرية، ونظر إليها كثيرون، كأنها أشبه بعملة «مونوبولي» الوهمية في اللعبة الشهيرة. بعدما ارتفع سعر البيتكوينات السحرية، إلى مستوى قياسي، وساد إحساس بأنها وحدة المستقبل النقدية، لم تبقَ محطة تلفزيونية إلا وعرّفت متفرجيها بها، وعرضت عنها تقريراً أو استضافت متخصصاً للشرح والتعليق. وها هي أصوات تقول الشيء وعكسه بعد أيام معدودات من هبوطها.
خوف وتردد يذكّران بحال فرنسا حين انتشر اختراع الإيميل، حيث قاومت الاعتراف به، كوسيلة رسمية للتخاطب، وفضلت الفاكس سنوات، إلى أن شعرت أن العصر تجاوزها، ورضخت لاحتياجات الواقع.
رفض المتفرجون طويلاً اعتبار الأغنيات التي تُبث على الشبكة العنكبوتية دون المرور بالتلفزيون ذات مصداقية فنية، وأعرضوا عنها، إلى أن كبر جيل جديد، بات يجد فيها ما هو أجمل وأكثر تعبيراً عنه وأقرب إلى روحه، من تلك التي تتبناها المحطات المعروفة وتقصفه بها. وجاءت بعد ذلك المواقع الإلكترونية المتخصصة في الموسيقى لتسد فراغاً، وتُرضي الجيل الصاعد. وأن تذهب فيروز كواحدة من أكبر مطرباتنا سناً وأكثرهن شهرة، لتطلق آخر ألبوماتها «ببالي» على هذه المنصات، فهو تأكيد أن العالم لا يتغير فقط وإنما يتزلزل تحت أقدامنا، وهو ما نحب أن نؤجّل الإقرار به.
وبما أننا في عصر الذكاء والمواهب، رغم الفوضى المريعة، التي ستنظم نفسها في النهاية، بحكم الضرورة، فإن الـ«بيتكوين» على فرادتها، وعظم خطورتها، ليست إلا حلقة في سلسلة الحركات التمردية التي تجتاح العالم في كل مجال، خصوصاً أن المال عصب وعمود فقري تتداعى لهشاشته بقية الأعضاء.
وما يحاول أن يفعله الثوريون الجدد، بقيادة المبرمجين الراغبين في انتصار هذه الحركات، كلٌّ في مجاله ودون تنسيق مسبق، هو إيجاد السبل لردم المسافات وتجاوز التعقيدات، وقتل فكرة الوسيط الذي اعتاد أن يكون استغلالياً، وأحياناً مصاص دماء، إلى غير رجعة.
وإذا كان وسطاء كُثرٌ هُزموا، وخضعوا لعمليات إلغاء صامتة، من دون مقاومة تُذكر لعدوهم الافتراضي، لأنه بقي بلا وجه معروف، فإن المصارف العالمية، المستهدفة هذه المرة، من قبل الـ«بيتكوين»، ستقاوم حتى الرمق الأخير. فالأمر يتعلق بالاستحواذ على ثروات العالم، وليس مجرد التقليل من أهمية مهنة أو إعلاء شأن فنان.
تخسر الـ«بيتكوين» في كل مرة، وتنتفض من جديد، وتشخيص الأسباب يأتي مختلفاً، بعد كل اهتزاز. لكن الأكيد أن المضاربات بلغت حداً مثيراً ومخيفاً، بعد أن دخل حيتان المال على خط العملة الرقمية، إما للإفادة منها بعد أن أصبحت تُسيل اللعاب، وإما للإيقاع بها وقد ارتعدت لنجاحها المفاصل.
قد تزول عملة اسمها «بيتكوين» تحت وطأة المحاربة أو لثغرة في نظامها العام، لكن زمن العملات الافتراضية بدأ، والتسميات هنا ليست هي الأصل بل الوظائف. العالم القديم بأنظمته الصدئة يذهب إلى غير رجعة، ويولد كون آخر، له ملامحه وثواره الذين سرعان ما سيتحولون إلى أسياد جدد لهم من يناهضهم.
وسواء نجحت المحاولات لإنهاء ابتكار «بيتكوين» المذهل، الذي فتح المجال لكل شخص أن يُجري تحويلاته أو مشترياته ويدفع بكبسة زر، من دون حاجة إلى بنك أو مؤسسة نقدية تملي شروطها عليه، ولكل دولة مهما بلغت العقوبات المفروضة عليها أن تكسر القيود، فإن الفكرة لن تموت، وجهد العباقرة المتمردين، الذين سهروا الليالي لرسم خوارزمياتها الدقيقة، لن يدفن أبداً.