د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».
TT

ليبيا ولعنة الانتخاب

لعنة الانتخاب تطارد الليبيين منذ خطيئة انتخاب المؤتمر «الوطني» (أول برلمان ليبي منتخب بعد سقوط نظام القذافي) التي تسببت في فوبيا الحبر الأزرق، وأصبحت تطارد الليبيين في كل استحقاق انتخابي، وقد تكاد تكون السبب الرئيسي وراء أي مقاطعة وعزوف من الأكثرية الشعبية للانتخابات المقبلة، مما تسبب وسيتسبب دائماً في مشاركة ضعيفة جداً، ما دامت اللعنة لا تزال تطارد البعض، حيث خيب المؤتمر «الوطني» آمال الليبيين في انتخاب أول برلمان ليبي في التاريخ الحديث، بعد أن تسلل إليه أعضاء جماعات الإسلام السياسي من بينهم الذين كانوا يسكنون كهوف تورا بورا وبيشاور، ويجاهرون بالتأييد وحتى الولاء للتنظيمات المتطرفة، وتحولوا داخله إلى إسفين يدقّ في نعش الدولة المدنية، وتآمروا عليها من خلال سياسات أظهرت عداءً واضحاً لمعالم الدولة المدنية، فصنعوا من خلال التشريع والتنفيذ الميليشيات الموازية للجيش الوطني تحت مسميات متعددة، وانحصرت المناصب السيادية والقيادية في الدولة بين أنصارهم وأتباعهم.
فالعملية الانتخابية في ليبيا كانت ضحية أخطاء كثيرة منها سوء اختيار المرشحين من ناحية، وخلل في النظام الانتخابي من ناحية أخرى، حيث سمح النظام الانتخابي الذي يبدو أنه تم إعداده ليتماشى مع مخطط جماعات الإسلام السياسي وقدراتها على الحشد والتضليل، بتسلل الأحزاب والجماعات من خلال فئة المستقلين الذين سرعان ما تبدل الولاء عندهم من دعاية انتخابية بالاستقلالية إلى تزعم كتل حزبية برلمانية بعد الانتخاب، في أكبر عملية مخادعة للناخبين، للأسف لم يجرمها القانون الانتخابي، لأنه سمح بتبدل الولاءات بعد الانتخاب كتبدل الأفاعي جلودها في الشتاء.
لعنة الانتخاب ونتيجتها المدمرة في ليبيا، لا تنفع معها المقاطعة ولا تجدي نفعاً، وليست هي الحل، بل تجعل من الفاسدين قد يتصدرون المشهد مرة أخرى، لخلو الساحة لهم كما قال المفكر الأميركي جورج ناثان: «فمن ينتخب المسؤولين الفاسدين، هم المواطنون الصالحون الذين لا يدلون بأصواتهم» وفي تجربة الانتخابات الماضية صوت البعض واعتبر الحبر الأزرق على أصبعه حناء تخضبها، بينما قاطع الآخرون الانتخاب، وهم ليسوا بالعدد القليل وفضل بعضهم غطس أصبعه في الشوكولاته والعسل ساخراً من العملية برمتها.
الشروع في عملية انتخابية كما يسعى غسان سلامة مبعوث الأمم المتحدة، ضمن خطة له في وجود قانون انتخابي معيب وغياب وتغييب للدستور، وفي ظل عاصمة رهينة عند ميليشيات الإسلام السياسي، وحكومة غير قانونية مقيدة الحركة في قاعدة بحرية في طرابلس، رغم كسبها لاعتراف دولي ولا تبسط أي سيطرة داخل العاصمة، ولا تستطيع السيطرة والإشراف وتوفير ظروف ملائمة للعملية الانتخابية، وفي ظل مدن ومناطق نازحة ومهجرة ونزاعات محلية بين المناطق، يصبح من غير الممكن تحقيق عملية انتخابية عادلة ونزيهة ومتساوية الفرص، تضمن للمرشح التحرك بشكل آمن بين ناخبيه، يضمن سلامته وسلامة الناخبين وحرية اختيارهم دون أي ضغوط تمارسها الميليشيات المسلحة للتأثير على العملية الانتخابية، ناهيك عن عدم قدرة البعثة الدولية للأمم المتحدة على ضمان اعتراف الخاسر للانتخابات بنتائج الصندوق، وعدم التمترس خلف السلاح كما حدث في 2014، عندما رفضت جماعات الإسلام السياسي وجماعة الإخوان خصوصاً، النتائج الانتخابية لخسارتها فيها، وحصولها على أقل من 5 في المائة فتمترست خلف السلاح، وخاضت حرباً دمرت فيها مطارات وطائرات مدنية وخزانات نفط ومؤسسات مدنية وعطلت الحياة العامة، وتسببت في نزوح البرلمان الشرعي والمنتخب والحكومة الشرعية خارج العاصمة وانسداد الحل السياسي، ساعدهم في ذلك الاستقواء بالأجنبي من دعم قطري وآخر أميركي في عهدي أوباما وكلينتون عرابي الإسلام السياسي والجماعات والتنظيمات الضالة في الشرق الأوسط.
من أهم مقومات الانتخاب هو وجود إطار تشريعي منظم له، ويكون فيه حق الانتخاب مكفولاً للجميع دون إقصاء، مع توفر مناخ مناسب للعملية الانتخابية، ولكن في ظل تهجير مدن كاملة مثل مدينة تاورغاء ووجود أعداد كبيرة من الليبيين بين نازح في الداخل ومهجر في الخارج، بسبب تأييدهم للنظام السابق مثلاً أو بسبب الحرب وتبعاتها.
تكرار التجربة الانتخابية في ظل الظروف الراهنة دون أي ضمانات دولية لحماية المرشحين وحماية الناخبين واحترام النتائج، سيكون نوعاً من العبث والتهريج وإعادة إنتاج لجماعات الإسلام السياسي من جديد، لأنها الوحيدة من تجيد لعبة الخداع الانتخابي وتضليل الناخبين، وصناعة المرشحين الموالين لها، في ظل ضعف التجربة والخبرة الانتخابية والتنظيم والتأطير للتيار المدني المقابل لها، مما سيجعل الانتخابات بمثابة حصان طروادة لدخول جماعات الإسلام السياسي للمشهد السياسي الليبي من جديد.