نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

القدس... إجماع المواقف واختلاف الأجندات

الإجماع الدولي على رفض قرار ترمب بشأن القدس، لا يحمل أي جديد من حيث مواقف الدول، فكل الذين رفضوا هذه الخطوة لم يعترفوا يوماً بالقدس عاصمة لإسرائيل، وربطوا مصير القدس بحل نهائي تكون فيه المدينة عاصمة لدولتين؛ الشرقية للفلسطينيين وهي الأهم، والغربية لإسرائيل وهي الأقل أهمية.
إلا أن الجديد الذي أظهره هذا الإجماع الدولي، هو الانعزال الأميركي وعدم الإدراك بأوضاع المنطقة التي تتهيأ لحل جذر مشكلاتها بصفقة القرن.
غير أن الرفض الشامل لقرار ترمب ربما يضعف تأثيره العملي، حين يُستغل في سياق تنافس الأجندات وما تحمله من تناقضات في الوسائل والتوجهات.
وقبل أن يلتئم المؤتمر الإسلامي في تركيا، استعرض أصحاب الأجندات مواقفهم ورؤاهم على نحو لا تتفق فيه أجندة مع الأخرى، فالإيرانيون مثلاً يريدون انتفاضة مسلحة في الضفة الغربية، معتمدين بذلك على الانفعالات الشعبية الحادة التي أنتجتها سياسة ترمب الجديدة إزاء القدس، ومعتمدين كذلك على مهربي الأسلحة، محددين الانتفاضة التي يدعون إليها ويعملون من أجلها على أنها مسلحة ليس إلا.
والأجندة التركية المستضيفة للمؤتمر، سعت مقدماً إلى التشكيك في مواقف كثير من الدول العربية، واصفة إياها بالدول التي تخاف من أميركا وتمتثل لسياساتها، ومعروف الهدف من السطور وما بينها.
والأجندة الأردنية الفلسطينية ومعها السعودية، تسعى إلى تعديل الموقف الأميركي بما يخلق توازناً حول القدس، ثم في أمر صفقة القرن. وهؤلاء يطلبون ما لا ينبغي أن يُرفض، وهو موقف أميركي تصحيحي، يتفهم؛ بل ويعترف بالحقوق الفلسطينية والأردنية والإسلامية بالقدس الشرقية، وهي حقوق ترقى إلى مستوى العاصمة الفلسطينية.
أمّا أوروبا المستبعدة أميركياً وإسرائيلياً عن محاولات الحل في الشرق الأوسط، فمطلبهم يقترب من مطلب الفلسطينيين والأردنيين، بضمان الحقوق الفلسطينية والأردنية في القدس، مع ضرورة التوازن بصورة واضحة في صفقة القرن كي تُقبل.
ما الذي يجمع بين هذه الأجندات؟ وكيف يمكن للإجماع على رفض خطوة ترمب أن يكون قاعدة لانطلاقة سياسية مجدية؟ وما النقطة التي سيجتمع عليها رافضو خطوة ترمب في الإجراءات وليس في البيانات؟ هل بوسع هذا الخليط المجتمع في تركيا أن يجد هذه النقطة كي يلتزم بها الفلسطينيون والأردنيون والأوروبيون والأتراك، ليجسدوا ثقلاً محدداً بمطالب محددة، تضغط على الأميركيين وتؤثر في قرارهم؟ أم العودة إلى التراث القديم بتمجيد القدس وإظهار أهميتها للعالم، وتسمية الشوارع باسمها، والفيالق باسمها، وحتى المطاعم والمقاهي والبقالات، دون أن يغير ذلك من الأمر شيئاً، سوى أنه أعطى إسرائيل فترة سماح، جعلتها إن لم تستطع اقتحام قلب القدس المحروس فلسطينياً، فهي تطوقها من الجهات الأربع، وتحاول أن تمد الطوق ليشمل معظم دول العالم؟
الفلسطينيون يخشون من أن تكون القدس رأس الهرم المقلوب، فعلى أهلها المحاصرين داخل أحيائهم وبيوتهم كل أثقال المواجهة وأعبائها، وعلى فلسطين الأوسع المحتلة بالنار والحصار والقيود أن تتحمل العبء، بينما الطلقاء يقدمون النصائح.
أهل فلسطين وطليعتهم المقدسية قالوا قولاً حاسماً في مواجهة قرار ترمب، رفضوه وأعلنوا تشبثهم بأرضهم ومقدساتهم وعاصمة دولتهم الموعودة، ويكفينا منهم أنهم يواجهون بصدورهم العارية أحد أقوى الجيوش في العالم المتفرغ لقمعهم وكتم أنفاسهم، ورغم ذلك يصمدون ويرابطون، وعلى مدى خمسين سنة من الاحتلال وإنفاق المليارات لتهويد القدس، نجح هؤلاء الناس في إثبات وجودنا جميعاً داخل القلعة الرئيسية، ولم تتمكن إسرائيل من جعل القدس الموحدة حقيقة واقعية متكرسة على الأرض.
إن الفلسطينيين الذين قالوا شكراً لكل من رفض قرار ترمب، ما زالوا قلقين من تصارع الأجندات، ومن جعل القدس غلافاً وليس جوهراً، أو رأس هرم مقلوب يقف على رأسه.