ليونيد بيرشيدسكي
TT

روسيا وحقبة ما بعد بوتين

كان إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عزمه الترشح لفترة رئاسية رابعة أمراً متوقعاً منذ فترة طويلة، وإن كان بدا لبعض المراقبين الروس (على نحو جانبه الصواب) أنه انتظر هذه المرة لفترة أطول من المعتاد كي يصدر هذا الإعلان. أما الأمر الأقل وضوحاً الآن فهو كيف سيعمل النظام الذي بناه بوتين على ضمان استدامته في أعقاب نهاية فترة بوتين الرئاسية التالية عام 2024، التي يحظر عليه الدستور الترشح للرئاسة بعدها.
الملاحظ أن الفترة الرئاسية الثالثة لبوتين كانت أهم من فترته الأولى
(2000 - 2004) التي اتسمت بإصلاحات اقتصادية على غرار إصلاحات الجمهوريين الاقتصادية داخل الولايات المتحدة، وإقرار ضريبة دخل ثابتة، وجهود التطويع القاسي لكبار أثرياء عقد التسعينات، وإعادة تركيز السلطة خلال الفترة 2012 - 2018. تخلى بوتين عن أي تظاهر بأنه يتماشى مع سياسات واشنطن وحلفائها الأوروبيين، وسعى لأن يوضح للعالم أن «باكس أميركانا» تحتضر. وفي هذا الأمر تحديداً، صادف بوتين نجاحاً كبيراً. إلا أنه في الوقت ذاته أهمل القاعدة التي تعتمد عليها إنجازاته الجيوسياسية - روسيا، تلك البلاد المترامية الأطراف التي لا تزال تعاني الفقر، ويخالجها شعور بغضب قوي من أن بوتين ربما لم يعد يمثلها، أو حتى يدير شؤونها.
من ناحيته، يقول بوتين إن نجاحاته الكبرى تقع خارج روسيا. وقد تشبث بالقرم التي ضمها إلى بلاده، في الوقت الذي أبقى الكرملين على سيطرته العملية على «الجمهوريات الشعبية» شرق أوكرانيا التي تشهد حركة غوغائية تسعى للانفصال. وقد امتنع بوتين عن السعي وراء مزيد من المكاسب الإقليمية بسبب اعتبارات التكلفة - ويبدو أنه يرى أهمية وراء إبقاء أعداد الضحايا العسكريين ضئيلة في الوقت الذي يدفع مجموعات تعمل بالوكالة نحو تحمل العبء الأكبر - لكن يبدو أن الحد الأدنى من أهدافه تحقق بالفعل. ويبدو جلياً حتى أمام أكثر المراقبين تحيزاً أنه رغم الدعم الغربي الهائل، فإن أوكرانيا الحديثة ليست سوى كتلة فوضوية، لم تزدد النزعات الأوروبية داخلها عن الفترة التي قررت خلالها الانفصال عن مجال النفوذ الروسي في بداية فترة رئاسة بوتين الثالثة.
من ناحية أخرى، فإنه رغم مقاومة واشنطن، تمكن بوتين من معاونة حليفه السوري، بشار الأسد، على الانتصار في الحرب الأهلية في بلاده. وبحلول نهاية 2017 يبدو واضحاً أن الأسد حتى لو رحل عن منصبه ذات يوم، فإن هذا الرحيل سيأتي بصورة بعيدة تماماً عن الأسلوب الذي أسقطت الولايات المتحدة وحلفاؤها به صدام حسين ومعمر القذافي. الحقيقة أن تدخل بوتين الناجح في سوريا أعاد رسم خريطة العلاقات على مستوى الشرق الأوسط، وساعد فعلياً في انتزاع تركيا من التحالف الغربي، وإقامة علاقة عمل ناجحة بين المملكة العربية السعودية وموسكو، الأمر الذي تعزز بإقرار تحالف بين الجانبين على صعيد السياسات النفطية. كما منح بوتين الأمل للقوى غير الليبرالية عبر أرجاء أوروبا، التي أخفقت في الفوز في انتخابات محورية هذا العام، لكن تبقى حليفاً مفيداً لموسكو. وسواء كان ذلك عن حق، ترسخت صورة روسيا في أذهان النخبة الغربية باعتبارها قوة قرصنة إلكترونية عظمى. والواضح أن بوتين من جهته يسعى لتعزيز هذه السمعة عبر إقرار تكنولوجيا العملات المشفرة كبديل للنظام المالي الذي يهيمن عليه الغرب.
بيد أن ما سبق كبد روسيا مكانها داخل مجموعة الثمانية وطموحاتها نحو نيل عضوية في أوروبا كبرى، تمتد من لشبونة البرتغالية إلى فالديفوستوك في روسيا الاتحادية. ومع هذا، لم تتحول روسيا إلى دولة منبوذة بالنسبة لباقي دول العالم، خصوصاً الصين التي سمحت لبوتين بزعزعة دعائم النظام العالمي الذي يقوده الغرب. والمعتقد أن الفترة الرئاسية الثالثة سيجري تذكرها باعتبارها السنوات الأربع التي جعلت فكرة وجود عالم متعدد الأقطاب، إن لم تكن واقعاً، فعلى الأقل إمكانية قائمة.
في المقابل نجد أنه في الوقت الذي كرس بوتين جل مهاراته للقضايا الجيو- سياسية، غاب دوره داخلياً على نحو متزايد. في الواقع، خلال فترتي الرئاسة الأولى والثانية، أبدى بوتين كفاءة كبيرة على مستوى الإدارة التفصيلية؛ ذلك أنه تولى اتخاذ جميع القرارات المهمة ودراسة جميع الصراعات المؤثرة، لكن يبدو اليوم أن بوتين بدأ يفقد هذه القدرة.
من أبرز الأمثلة على ذلك، المحاكمة الجارية اليوم لوزير الاقتصاد أليكسي أوليوكايف الذي تقدم ضده أحد المقربين من بوتين، إيغور سيشين، رئيس شركة «روزنفت» النفطية العملاقة المملوكة للدولة، الذي اتهمه بطلب رشوة بقيمة مليوني دولار. وقد جرى افتتاح المحاكمة أمام وسائل الإعلام، وعانى رئيس شركة «روزنفت» من مذلة الاستدعاء أمام المحكمة على نحو متكرر، واضطر لاختراع أعذار لتجنب ذلك. ولم يكن بوتين ليسمح بظهور مثل هذا النمط من الصراعات في العلن خلال الأيام الأولى له في السلطة - على الأقل ليس لفترة طويلة.
ويكمن مثال آخر في الاستقلالية التي تنطوي على بعض السياسات التي يبديها رمضان قديروف، رئيس الشيشان الذي عينه بوتين. ويشكل إصرار قديروف على الالتزام بالقيم الإسلامية المحافظة داخل بلد علماني، تحدياً مستمراً لسلطة موسكو. كما أن قوة قديروف تبقي سلطات إنفاذ القانون بعيداً عنه. ومن جديد، لم يتدخل بوتين.
وعلى مدار فترة رئاسته الثالثة، انحرف بوتين كذلك عن مساره المعهود فيما يخص السياسات الاقتصادية، ذلك أنه لم يتخذ إجراءات تذكر لإعداد روسيا لمواجهة تراجع أسعار النفط. وبدا بوتين متردداً على نحو متكرر حيال إجراء أي تغيير جريء يوضح أن أمام الروسي مستقبلاً أكثر أملاً.
ومع أن بوتين يبقى السياسي صاحب الشعبية الأكبر داخل روسيا، فإن الروس بوجه عام يبدون فتوراً إزاء انتخابات مارس (آذار). وتبعاً لأحدث استطلاع رأي أجراه مركز «ليفادا»، فإن 58 في المائة فقط من الناخبين ينوون الإدلاء بأصواتهم. وجدير بالذكر أن نسبة المشاركة في انتخابات 2012 بلغت 65.3 في المائة، كما أن أليكسي نافالني الناشط المناهض للفساد، والخصم الوحيد الحقيقي أمام بوتين، ربما لن يترشح في الانتخابات، رغم قضائه شهوراً في إدارة حملة انتخابية، وحصوله على دعم واضح داخل المناطق النائية بروسيا، خصوصاً في أوساط الشباب.
باختصار، لا يمكن الإبقاء على أداء بوتين الراهن إلى الأبد، دون وجود سياسات داخلية متناغمة وناجحة. والتساؤل الذي يفرض نفسه اليوم: ما شكل المستقبل الذي ستحظى به روسيا بعد إعادة انتخاب بوتين، والذي لن يكون لبوتين بالضرورة قول كبير في رسم ملامحه؟
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»