فيتالي نعومكين
رئيس «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية/ موسكو
TT

اليمن آخر مفاجآت الشرق الأوسط

تحولت مشكلة الشرق الأوسط منذ عدة سنوات مضت بالنسبة لكثير من اللاعبين الخارجيين إلى مادة للاستهلاك السياسي الداخلي، أكثر منه مما هي للخارجي. بدا وكأن هذه المنطقة التي من الصعب توقع ما يمكن أن تأتي به قد استنفدت كل ما لديها من مفاجآت في ظهور بؤر نزاعات جديدة وتقلبات غير متوقعة في سياسة قادتها وتكتلاتها وحتى حكوماتها، وكذلك تحولات مستمرة في تشكيلات قواها السياسية وغيرها من التغيرات الديناميكية الأخرى في الوضع فيها.
أحد الأمثلة الأخيرة هو التغيرات الجذرية التي طرأت في الأمس القريب على التركيبة السياسية الداخلية في اليمن، الذي تنهشه الخلافات الحادة بين مجموعاته الكثيرة والمختلفة. لقد أضيف فجأة خط جديد إلى خطوط المواجهة الكثيرة، هو خط المواجهة بين علي عبد الله صالح مع القوى الموالية له من جهة، والمتمردين الحوثيين الذين كان متحالفاً معهم في السنوات الأخيرة من جهة أخرى. وكما هو معروف، فإن الرئيس السابق أعلن رسمياً قطع الشراكة مع حركة «أنصار الله»، متهماً إياها بالأعمال العدائية. وبناء على ذلك، بدأت منذ الأربعاء الماضي معارك عنيفة في العاصمة صنعاء باستخدام الأسلحة الثقيلة بين الحلفاء السابقين. أحد الأصدقاء من المحللين اليمنيين أخبرني حينها، بشرط كتمان اسمه، عن توقعه لاحتمال صعود أحمد، ابن علي عبد الله صالح إلى خشبة المسرح السياسي.
الأخبار التي تأتي من اليمن يمكن تقييمها كإثبات على انتقال علي عبد الله صالح وأنصاره إلى صف الحكومة المعترف بها في المجتمع الدولي، ما يعني الانتقال إلى صف التحالف العربي. والرئيس عبد ربه منصور هادي، خلال اجتماعه مع المستشارين، اتخذ قراراً بضم علي عبد الله صالح إلى صفوف التحالف الوطني الجديد الذي يستند إلى 3 مصادر: المبادرة الخليجية، وقرارات مجلس الأمن، ومخرجات الحوار الوطني. وتدفقت بعدها فوراً أخبار مقتل علي عبد الله صالح على يد الحوثيين التي صدمت الرأي العام في روسيا، لا سيما أنهم في هذا البلد كانوا على معرفة جيدة بالرئيس اليمني السابق. عدا ذلك، برزت مخاطر مختلفة من إمكانية بدء «جولة» جديدة من النزاعات الدموية في اليمن.
بالطبع، فإن موسكو إلى هذه اللحظة لم تول اهتماماً كبيراً تجاه الأحداث في اليمن، لكنه من جهة أخرى لا يجوز التغاضي عن الأواصر التاريخية القوية التي تربط روسيا واليمن، فالمملكة اليمنية هي الدولة العربية الثانية التي أقامت معها موسكو علاقات دبلوماسية بعد المملكة العربية السعودية، والجيش اليمني كان مسلحاً بشكل رئيسي بأسلحة سوفياتية، وأغلب الضباط اليمنيين تم إعدادهم في المؤسسات التعليمية العسكرية الروسية. وفي اليمن عدد ليس بالقليل من خريجي الجامعات والمعاهد الروسية.
وفي الماضي، كانت هناك علاقات على وجه الخصوص بين موسكو واليمن الجنوبي، حيث كان يعمل الآلاف من الخبراء السوفيات. وحتى في سنوات الحرب الأهلية، فإن روسيا لم تنأ بنفسها، بل شاركت بنشاط في تحضير القرارات الملائمة في مجلس الأمن، وكذلك في نشاط مجموعة الدول العشر التي قام ممثلوها بتحضير عملية الحوار الوطني في هذا البلد. وساندت حينها روسيا خطة مجلس التعاون الخليجي، وهي الدولة الوحيدة بين الدول الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن التي لم تغلق سفارتها في صنعاء بعد اشتعال الحرب الأهلية هناك. ولا تزال روسيا تحافظ على اتصالاتها مع الأطراف المتنازعة، وتبدي اهتماماً صادقاً بإعادة السلام إلى اليمن.
إن أكثر ما يقلق موسكو في الظروف الحالية، حتى بعد توجيه ضربات قاصمة لمواقع «داعش» في العراق وسوريا، حيث فقد الإرهابيون أغلب الأراضي التي كانوا يسيطرون عليها، هو أنهم لا يزالون يحافظون على قواعدهم في اليمن، والأكثر من ذلك مخاطر انتقال بقايا الفصائل الإرهابية المندحرة في العراق وسوريا إلى اليمن، بمن فيهم المقاتلون الأجانب. والمادة الأساسية التي تقلق روسيا على وجه الخصوص هي أولئك الذين جاؤوا من القوقاز الشمالي وآسيا الوسطى، وقاتلوا مع «داعش» وغيره من المجموعات الإرهابية. فمن المعروف أن «داعش» يتحول إلى استراتيجية إنشاء فروع له في دول مختلفة، محاولاً بذلك وضع المجموعات التي تنشط في المناطق المختلفة من الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب شرق آسيا تحت رايته، حيث يتدفق إليها قسم من المسلحين.
ويسجل الخبراء الروس نمو نشاط «داعش - فرع اليمن» و«القاعدة في جزيرة العرب» في اليمن (بما فيه بسبب تدفق المقاتلين الأجانب الذين حصلوا على خبرات قتالية كبيرة في سوريا والعراق). ويقاتل الإرهابيون في آن واحد ضد قوات «الحزام الأمني» التي تحافظ على النظام في عدد من المحافظات الجنوبية في اليمن، بمساندة من الإمارات العربية المتحدة، وضد دول أخرى من مجلس التعاون الخليجي، وضد الدول الغربية.
وتتطابق مصالح روسيا في مواجهة هذا الخطر مع مصالح الدول الغربية والولايات المتحدة الأميركية. وأرى أن الضربات الصاروخية التي وجهها العسكريون الأميركيون لأول مرة على مواقع «داعش فرع - اليمن» في محافظة البيضاء في 16 أكتوبر (تشرين الأول)، تتسق مع مسارات هذه المصالح. وبالمناسبة، أعلن المحللون أن علي عبد الله صالح هو أيضاً يعتبر واحداً من الأهداف الرئيسية لتنظيم «داعش - فرع اليمن»، فهل يمكن توحيد كل القوى في مواجهة هذا التهديد الإرهابي المتفاقم، حبذا لو حصل ذلك؟
تغيرات ديناميكية لوحظت في سياسة بعض القوى الدولية العظمى تجاه المنطقة، على وجه الخصوص نمو نشاط الصين في المنطقة، بما فيه في المجال العسكري الذي لم يكن موجوداً في السابق، كما هو الحال بالنسبة إلى روسيا، فإن ما يقلق هذه الدولة العظمى بشكل أساسي هو أيضاً التهديد من قبل الإرهابيين، وبالدرجة الأولى من الذين جاؤوا من منطقة شينغيانغ الصينية. هؤلاء المقاتلون الذين أغلبيتهم من أقلية الإغور هم أعضاء في حركة «تركستان الشرقية الإسلامية». وبحسب بعض المعلومات، فإن هؤلاء المسلحين خلال قتالهم في سوريا كانوا الأكثر وحشية وقسوة، وفي الوقت نفسه من ذوي الخبرات القتالية العالية. وتحدث السكان الذين هربوا من «داعش» عن وجود ما لا يقل عن ألف مقاتل أو أكثر من الصينيين بين صفوف المجموعات الإرهابية في سوريا، غير أن بكين بدأت منذ فترة قريبة فقط تضيف نشاطاً عسكرياً على نشاطها التقليدي في المنطقة، الذي كان يقتصر على المجال التجاري والاقتصادي.
العلامة المهمة في هذه العملية باتت تأسيس قاعدة بحرية عسكرية صينية في جيبوتي، وهي أول موقع عسكري لبكين في الخارج. ويرى الخبير الروسي في الشأن الصيني أليكسي ماسلوف أن الصين «تختبر» في هذه الدولة الصغيرة سياسة بناء قواعد عسكرية في الخارج. ويعتقد أن بكين لن تتوقف في جيبوتي، خصوصاً مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية الشرق الأوسط وأفريقيا بالنسبة لها في المجالين: مجال تعزيز مصالحها الاقتصادية، ومجال توفير الأمن (بالدرجة الأولى، مكافحة المجموعات الإرهابية).
وهذه مرحلة جديدة غير متوقعة. فمنذ فترة قريبة، أعلنت بكين نتائج عملية لوحدات قواتها الخاصة التابعة للجيش الصيني في سوريا، مع أنه بداية تم الإعلان عن إرسال مجموعة من المستشارين العسكريين الصينيين للمشاركة في إعداد الجيش السوري والعمليات الإنسانية، على خلفية زيارة ممثل وزارة الدفاع الصينية الأدميرال غوان يوفي الذي قام بها منذ فترة إلى دمشق. ومن المنطقي توقع أنهم سيعملون على مواجهة المتطرفين الإسلامويين الإيغور بالذات، الذين لا يزالون يقاتلون في معارك ضد القوات الحكومية في بعض القرى شمال شرقي محافظة حماة، لكن ما يدهش هو أن بعض المحللين الصينيين يربطون هذا القرار الصيني المفاجئ للمشاركة المحدودة لوحداتها في العمليات العسكرية في سوريا، ليس بهدف القضاء على المتطرفين الإغور، وإنما المنافسة مع الولايات المتحدة الأميركية.
في الوقت نفسه، فإن بعض الخبراء يتحدث عن إمكانية إجراء عمليات مشتركة بين الصين وروسيا ضد الإرهابيين، مع أنه علينا ألا ننسى أن روسيا أعلنت عن قرب انتهاء العملية العسكرية ضد الإرهابيين. أما آخرون، فيتحدثون عن رغبة بكين في وضع موطئ قدم لها في سوريا، في أمل منها بأن تشارك في إعادة بناء سوريا التي ستعود عليها بالأرباح. ولدى الصين لهذا الغرض إمكانيات مالية أكبر من باقي اللاعبين. وعلينا ألا ننسى مصالح بكين، المتمثلة في توفير الأمن لمشروع «طريق الحرير» الذي يمر عبر هذه المنطقة، وضمان توريد النفط إليها دون انقطاع.
وعلى الأغلب، فإن منطقة الشرق الأوسط التي لا تنضب من المفاجآت سيدهش العالم بها أكثر من مرة في المستقبل. ومن ناحية موسكو، يمكن اليوم التنبؤ ببعض النمو في اهتمامها تجاه اليمن، على خلفية المنعطفات المأساوية في تطور الوضع الداخلي فيه، كذلك بإمكانية تعميق تنسيق العمل مع الصين في سوريا في مرحلة ما بعد الأزمة، هذا في حال كانت بكين جاهزة لمثل هذا التنسيق.
وعلى أصدقاء اليمن والمجتمع الدولي أن يقوموا بكل ما هو مطلوب لإخماد نار الأزمة في هذا البلد، ويجب مساعدة اليمنيين ليس فقط بإعادتهم إلى الحوار الوطني، وإنما برسم ملامح هيكل دولتهم المستقبلي.

* رئيس «معهد الاستشراق» في أكاديمية العلوم الروسية بموسكو - خاص بـ«الشرق الأوسط»