خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

الوزير المهذار

وزارتان تحتلان المكانة الأولى من الأهمية والسرية في أي حكومة؛ وزارة الدفاع ووزارة المالية. كم يتهالك المراسلون على اقتحام أسرارهما، وهذا ما وقع به المستر هيو دلتن، وزير المالية البريطاني في حكومة كلمنت أتلي العمالية بعد الحرب العالمية الثانية. وكان «العمال» حديثي عهد بالحكم والإدارة فوقعوا من مطب إلى مطب. كان من أخطرها هذه الهفوة الصحافية التي أنهت الحياة السياسية للوزير الاشتراكي هيو دلتن.
جلس دلتن مع أتلي، رئيس الوزراء، وتناقشا في ذلك الموضوع الخطير، الميزانية. وكان الوزير على أهبة إحاطة البرلمان بمحتويات الميزانية الجديدة، عندما وردت رسالة سريعة تخبره بأن صحيفة «ستار» قد كشفت عن بعض محتويات الميزانية مقدماً، وأن المحافظين سيثيرون الموضوع في المجلس. كتب دلتن في مذكراته يقول: «تذكرت أنني في طريقي إلى قاعة المجلس تبادلت بعض الكلمات مع جون كرفل، مراسل صحيفة (ستار) عن بعض محتويات قانون الميزانية. نسيت ذلك كلياً حتى وصلتني تلك الرسالة. أخذت معي موريس وموري وب إلى مكتبي في 11 داوننغ ستريت، ومعنا نسخة من الجريدة ليوم أمس. قلت لهما: هذا يعني أن عليّ أن أقدم استقالتي. اتفقنا جميعاً على أن أقدم اعترافاً كاملاً وصريحاً عن مسؤوليتي، وأعرب عن أسفي العميق واعتذاري للمجلس».
وهذا ما كان. ولكننا سرعان ما نكتشف عيباً آخر من عيوب أهل السياسة، وهو النفاق والرياء. يمضي الرجل فيقول في يومياته: «قلت لأتلي يا رئيس الوزراء. إنني أقدم لك استقالتي. ثم ذهبت لمقابلته بعد الظهر. جرى بيننا حديث مقتضب وكئيب. قلت له ها قد انقضت أربع ساعات على تقديم استقالتي. أرجو أن يكون بإمكانه قبولها الآن. أجابني قائلا: (نعم، إن عليه أن يفعل ذلك الآن). ولكنني تأثرت كثيراً عندما رأيته متأثراً جداً أكثر مني في ذلك الحين. قال: (إنه يكره ويكره...) وكرر كلمة (يكره) عدة مرات، أن يخسرني. ثم شكرني على ما قمت به بصفتي وزيراً لعدة وزارات على التوالي. وأعرب عن أمله في أن يكون باستطاعتي عن قريب العودة إلى إشغال منصب وزاري آخر فيما بعد، لوزارة أخرى، أو بصفتي رجلاً من كبار رجال الدولة».
الحقيقة إنه ما إن غادر هيو دلتن مكتب رئيس الوزراء حتى بادر هذا إلى تناول القلم ليشرح على ورقة الاستقالة بالقبول، ويضع هذه الكلمات عليها: «كان دائماً رجلاً مهذاراً!».
هذا ما دوّنه مؤرخ حياة كلمنت أتلي نقلاً عن أوراق رئيس الحكومة البريطانية العمالية. وبالطبع لم يتحقق ذلك الأمل، ولا رأى دلتن وجه الوزارة في حياته بعد ذلك أو تخطى بقدميه أبواب 11 داوننغ ستريت ثانية. وكان بذلك ضحية سياسية أخرى من مئات الساسة الذين سقطوا صرعى لقلم الكاتب الصحافي عبر الأجيال وفي كل دواوين الوزارات وميادين الحكم.