عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

إياك التصرف «برجولة»

القدرة على الكلام هي ما يميز الإنسان عن بقية الثدييات، تذكرت القول الشهير بمناسبة نشر أساتذة علوم الصوتيات واللغة البريطانيين تقريراً عن فقدان لغة شكسبير سحرها وأدبها في السنوات الأخيرة بتناقص استخدام الـadverbs، مفردها بالعربية ظرف الحال، اللازمة للغة المهذبة غير المباشرة، وتزايد استخدام الأسلوب الأميركي المباشر، الذي يعتبره الإنجليز الكلاسيكيون وقاحة وسوقية لا تغتفر.
ومثل الحال في البلدان العربية، يلاحظ الأكاديميون البريطانيون انتشار اللغة الخالية من الذوق بين جيل التليفونات الذكية الأصغر سناً، بينما جيل الكبار لا يزال يلتزم بالأدب الجم والجمل المفعمة بظروف الحال والأسلوب غير المباشر.
رئيس العمل الأميركي يقول للمرؤوس: «أسرع بإنهاء التقرير»، بينما يلجأ نظيره الإنجليزي لأسلوب مهذب: «لا شك أن خبرتك الفريدة ستضفي مزيداً من الجودة على التقرير، هل حان وقت مراجعته معاً على فنجان شاي، أم تفضل أن أؤجل إزعاجي لك لوقت آخر؟».
وكلمة sorry (آسف) أكثر كلمة يرددها الإنجليز يومياً. فلا يطلب أحد منك مباشرة أن تفعل أو ألا تفعل كذا وكذا على طريقة الأميركان، وإنما يبدأ الإنجليزي بالاعتذار: «آسف لإزعاجك، هل تمانع كثيراً لو استخدمت التليفون لإجراء مكالمة سريعة؟».
وكثيراً ما يخطئ الأجانب فهم المقصود بالطريقة غير المباشرة، وغالباً تعني الجملة المركبة عكس ترجمة المعجم للمفردات. وإذا بدأ الإنجليزي رده عليك في مناقشة بجملة «مع احترامي الشديد»، يكون المقصود أنه يعتقد أنك غبي. أما إذا كان رده «اقتراحك في غاية الشجاعة»، فالمقصود أنك مجنون، ويجب تجنب كل أفكارك، بينما تعني «أمر مثير للاهتمام للغاية» أن ما تتحدث عنه كلام فارغ. وإذا حذف «للغاية»، فيعني أن الأمر جديد عليه، أو مناقض للواقع.
وتعليق الإنجليزي «كل ما لدي بعض الملاحظات الصغيرة» على تقريرك، يعني تمزيق أوراقك وإعادة الصياغة من الألف للياء.
وبينما يقول الأميركي «أنا مشغول الآن»، يقول الإنجليزي، «أنا أرغب حقيقة في المناقشة، لكن هل تمانع كثيراً لو انتظر الأمر ساعة (أو يحدد يوماً) حتى انتهي من الأمر الطارئ، ونناقش الأمر على مشروب؟». وإذا لم يحدد موعداً، واقترح أن يشتري هو المشروب، فتعني انسَ الأمر ولا تزعجني بعد الآن. أما إذا اقترح أن تشتري أنت المشروب، فهو صادق. وإذا قال لك الإنجليزي «أنا متأكد أنني المسؤول عن الخطأ»، فمعناها أنت المسؤول عن الخطأ.
وإذا قال الإنجليزي «هذا ليس سيئاً»، فمعناها أن الشيء طيب. أما إذا قال الإنجليز «جيد تماماً»، فيقصدون أنه مخيب للآمال بعض الشيء.
وهذا يسبب مفارقات كبيرة مع الأجانب عن بريطانيا، بل حتى مع أبناء عمومتهم الأميركيين الذين يتحدثون بشكل مباشر.
ما يثير حفيظة التقليديين أنهم يعزون تراجع فن التخاطب إلى ما دون الأدب الجم إلى غزو التعبيرات الأميركية. فمثلاً الأميركي يقول مباشرة «أحضر لي شاياً (تيك أواي) أثناء عودتك»، أما الإنجليزي فيقول «ألا تعتقد أن شاياً بعد الظهر من المحل القريب فكرة طيبة؟»، ثم يضيف عند موافقتك «هل تمانع كثيراً في أن تحضره».
وأكثر المفارقات سخرية أصادفها في رحلات الطيران إلى البلدان العربية، وترجمة الأفلام البريطانية (لا تحدث كثيراً مع الأميركية) إلى العربية، فيظهر شريط الترجمة الحرفية (غالباً ترجمة غوغل أو ميكروسوفت) بعكس المعنى المقصود، فالكومبيوتر لا يرى التعبيرات على وجوه الممثلين.
ورغم طرافة المظهر، فإن التدهور في استخدام اللغة كمحيط ثقافي تسبح فيه العناصر المكونة للبيئة العامة للمجتمع، يعكس تغيراً كبيراً، وفي معظمه للأسوأ، بتغير معاني أساسيات التعامل.
ويبدو أن هذا التغير يسير في اتجاه واحد من الصعب تغييره، خصوصاً أن المجتمعات مهما اختلفت لغاتها وثقافاتها أحياناً ما تصيبها هستيريا جماعية، ويسيطر التفكير الجمعي الموحد على الرأي العام.
فمثلاً كلمات وأسماء وصفات اعتبرها أبناء جيلي ابتذالاً وسوقية؛ كان المعلمون، سواء في الإسكندرية أو مدارس بريطانيا، يعاقبوننا على استخدامها في التخاطب، أصبحت اليوم مفردات عادية.
لا يمكن لأبناء جيلي الإشارة إلى واحدة من الجنس اللطيف بكلمة امرأة أو «مرة» بالعامية woman، وإنما «ليدي» lady أو «هانم» (التعبير الذي استخدمه في مصر والبلدان العربية عند مخاطبة السيدات) أو سيدة. لكن تجد الثقافة اليسارية تمنع استخدام كلمة «ليدي»، باعتبارها طبقية من التقاليد القديمة عندما كان الرجل مسؤولاً عن حماية بنات الجنس اللطيف ورعايتهن، وهو ما لا تقبله النسويات المعاصرات اللاتي فرضن ثقافتهن اللغوية على الجيل المعاصر.
هذه الأسبوع مثلاً، احتجت سيدة وزوجها على رسالة وجهها كبير أطباء المستشفى إلى الزوج يشكره لأنه «تصرف برجولة باصطحاب الطفلة للعلاج بعد تغيب الأم لوعكة صحية». واعتبرت الزوجة أن لغة صياغة الخطاب تحي بالتفرقة الجنسية ضد المرأة، باستخدام تعبير «تصرف برجولة»، وتقديم المرأة بصورة نمطية بأنها المسؤولة الأولى عن تربية الأطفال.
كبير الأطباء تلقى جزاء سنمار، وكان قصده تقديم نموذج الأب لحث المزيد من الرجال على مشاركة الزوجة المهام الأسرية.
تغير استخدام اللغة أدى إلى هدم المعاني المعروفة للكلمات، مما أدى إلى تغير في ثقافة التعامل بين الأجيال وبين الجنسين، وظهر مثلاً في فيضان اتهامات التحرش الجنسي، وفقد مصطلحات كالاغتصاب، والتحرش، والتعدي المهين، معناها المعروف لأجيال طويلة.
فتهمة الاعتداء الجنسي تشمل اليوم التعدي باليد واللمس على جسم سيدة، أو لمسة يد أو توديع بالتربيت على الكتف، حتى لو لم يقصد به سوى توجيه المسار أو التنبيه لخطر الاصطدام. بل اتسع المعنى ليشمل اللفظ، وأصبحت مفردات عصر لغة الجنتلمان والليدي تحرشاً جنسياً.
كلمات مثل: صغيرتي وعزيزتي وابنتي العزيزة اشتكى منها بعض النسوة، واعتبرن هذه الكلمات التي كانت أمراً عادياً لأبناء جيلي تحرشاً جنسياً. الغريب أن اتهامات الكلمات «التي تقلل من شأن المرأة» أو لمسها وقعت في الماضي، وبعضها قبل 15 عاماً، أي شكوى بأثر رجعي.
أمر محير لعجوز مثلي يستخدم اللغة المهذبة القديمة ومصطلحات التعاطف: «يا ولدي العزيز» و«يا فتاتي العزيزة» و«يا صديقي العجوز».
الكلمات القديمة وصفات الحال، كانت الوسائد الناعمة التي ترتاح عليها لغة التخاطب غير المباشر المهذب التي تختفي الآن في لغة وتعاملات تتحول فيها العلاقات بين أفراد المجتمع إلى ما يشبه أزرار الروبوت الميكانيكية، أو علاقات غرباء خشية أن تتحول ابتسامة الصباح إلى تهمة تحرش جنسي في المساء.