خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

البِّر بالعهد

نلاحظ في تراث شتى الأمم كثرة التأكيد عندهم على البر بالوعد. من ذلك ما قاله الإنجليز: «كلمة الرجل الإنجليزي قيده» An English man’s word is his bond، ولنا في تراثنا العربي كثير من الأقوال والحكايات والمواعظ التي تؤكد ذلك، سمعنا في هذا الخصوص قول الحارث بن عمرو الكندي: «أنجز حر ما وعد». ويقول أبو الفضل الميداني إن هذا الرجل فضّل صيغة النكرة على صيغة المعرفة فقال: «حر» ولم يقل «الحر» لأنه لم يرد أن يظهر بمظهر من يمدح نفسه. وهذا بالطبع ما يدل على قدم المثل وعراقته. ففي هذه الأيام يبذل القائلون والكاتبون جهدهم لمدح أنفسهم.
يقول صاحب الرواية، وهو المفضل، إن أول من قال ذلك القول كان الحارث بن عمرو آكل المرار الكندي، وقال تلك الكلمات لصخر بن نهشل بن دارم. أما حكاية القول ومناسبته فهي أن الحارث هذا قال لصاحبه صخر: هل أدلك على غنيمة على أن لي خمسها؟ فأجابه صخر قائلا: «نعم». فدله على أناس من اليمن، فجمع صخر قومه وهجموا عليهم فظفروا وغنموا الكثير منهم.
فلما انصرفوا قال له الحارث: «أنجز حر ما وعد». فأرسلها مثلاً. ثم راود صخر قومه ليبروا بوعده ويعطوا الحارث خمس الغنيمة كما تعهد له. فأبوا عليه وانطلقوا عائدين. وكانت في طريقهم ثنية ضيقة يقال لها شجعات، وكان صخر على علم بها فسبقهم إليها ليتصدى لهم. وقف على رأس الثنية وقال: «أزمت شجعات بما فيهن». فقال له جعفر بن ثعلبة من أبناء قومه: والله لا نعطيه شيئاً من غنيمتنا. ثم مضى ليجتاز المضيق فحمل عليه صخر وطعنه طعنة أودت بحياته.
أدرك القوم كل ذلك وعرفوا عزيمة صخر على البر بعهده فأذعنوا للأمر ووافقوا على إعطاء الحارث ما استحقه من خُمسٍ ودفعوه لصخر. وفي ذلك قال نهشل بن حري مؤرخاً الواقعة:
ونحن منعنا الجيش أن يتأوبوا
على شجعات والجياد بنا تجري
حبسناهم حتى أقروا بحكمنا
وأدي أنفال الخميس إلى صخر
من الطريف أن نلاحظ في الحكاية تغير القيم الأخلاقية. لقد شعر كل من الحارث وصخر بنقيصة وعيب فظيع في ألا يبر القوم بعهدهم ويعطوا خمس الغنيمة للمخبر. ولكنّ أياً منهما لم يجد أي عيب في أن يرشد رجل رجلاً آخر على قوم أبرياء ويسلبهم أموالهم. وأعجب من ذلك أن الميداني يروي الحكاية من باب الفخر والرضا.
بيد أن من الواضح أن الحكاية ترجع دون أي ريب أو شك إلى عهود الجاهلية ليس فقط بأسماء أبطالها، صخر ونهشل وآكل المرار... الخ. وإنما لأن الإسلام جاء وقضى على هذا النهج من الحياة المتوحشة والقيم المارقة في عرفنا المدني المعاصر.