بدأ المسلسل، كما اتضح للجمهور، بفضيحة هارفي واينستين، فإذا بها تلد فضائح. خُيّل للناس أن روائح ما فعل المنتج الكبير، سوف تظل ضمن أسوار هوليوود، محط أنظار كل طامحة جموح، وممثل طامح، يتوقان لأضواء السينما، ثم تبيّن أن حدوتة واينستين ليست سوى حبكة فصلٍ في رواية ستطول، وسوف تليها حبكات تحط الرحال تحت قبة برلمان «أم الديمقراطيات»، بريطانيا العظمى. استبد غضب جارة لي، إنجليزية الأب والأم والأجداد، فصاحت بلسان شكسبيري فصيح: ما جرى لكم معشر رجال هذا الزمن؟ ولمّا، من فورها، أدركت حيرتي بحثاً عن الجواب، سارعت تزيدني توضيحاً: يبدو أنه كلما أدرك بعضكم الكِبر، وتبوأ من نفوذ القوة مراكز أكبر، ازداد تسلّط شهوة النساء عنده، فإذا هو يخدش الحياء، ثم بلا تحرج، وعلى نحو مقزز، يتحرش بكل امرأة تبدو له على قدرٍ من الجمال، ألا تشرح لي سر هكذا توحش جنسي عند كثير من كبار رجال السياسة؟
لم أشأ الدخول في جدل بشأن خطأ القول إن المشكل ينحصر في رجال هذا الزمن، وهو زعم تردد كثيراً منذ ذيوع قصة هارفي واينستين، وتكاثر المزاعم ضده، كما لو أنها تتناسل. ذلك أن تحرش الرجل بالمرأة، وأحياناً العكس، ولو بنسبة أقل من واحد للأنثى مقابل أكثر من ألف للذكر، هو إشكال ليس محصوراً بجيل أو زمن، بل هو قديم كما قِدَم الحياة، ثم إنه ليس مقتصراً على ثقافة دون غيرها. ولأنني أعرف من مناقشات سابقة، أن مجرد توجيه الإصبع نحو خلل ما في ثقافة المجتمع البريطاني سوف يستفز الجارة - كما معظم مواطنيها - فتقفز إلى خندق الدفاع عن بلدها أمام هجمة مهاجر أجنبي، فقد أحجمت عن القول إن خدش الحياء والتحرش بالنساء، ناهيك عن جرائم اغتصاب القُصّر، هو مشكل متزايد بين رجال مجتمعات الغرب، رغم ما توفر فيها من حريات، أو قل ما تحقق لها من إباحية أسقطت، تقريباً، كل ممنوعات ما قبل «الثورة الجنسية» خلال ستينات القرن السابق.
مع ذلك، بدا من الواضح طوال الأسبوع الماضي أن مسلسل فضائح تحرش بعض كبار رجال صنع القرار البريطاني بنساء بارزات إعلامياً واجتماعياً، أذهل أغلب البسطاء، مثل جارتي، لسبب بسيط هو أيضاً، ذلك أن عامة الناس، حتى ممارس الخطأ والخطيئة بينهم، يتوقعون النزاهة ممن يوصلونهم إلى مجلس العموم، ليس فقط عبر الممارسة السياسية تحت سقف البرلمان، بل في مجالات حياتهم كافة، وبالطبع في المقدم منها ما يخص العلاقات الأسرية، والتزام الخلق القويم في التعامل السوّي مع أفراد المجتمع عموماً، والمرأة خصوصاً.
لم تستطع تيريزا ماي، تجنّب الخوض في الموضوع هي أيضاً، بعدما أطاح مسلسل التحرش مايكل فالون، وزير الدفاع المستقيل من حكومتها، فأقرت أول من أمس (الاثنين) أن السلوكيات غير اللائقة في البرلمان «تسبب لها الاضطراب». وربما أجابت رئيسة الحكومة عن تساؤل جارتي، وغيرها، عندما رأت أن جوهر المشكل هو «إساءة استغلال السلطة». صحيح. إنما، يظل من غير الواضح لماذا يصعب على بعض كبار رجال الحكم في دول الغرب الصناعي، التحكّم بميزان نزواتهم البشرية. نعم، الكل بشر، لكن ألا يشبه الجمع بين مسؤوليات السلطة، وبين المسايرة غير المشروعة لغرائز الجسد، محاولة القفز بين حواجز من نار؟ الأرجح أن الإجابة نعم. مع ذلك، تعجب إذ ترى عقلاء يُفترض أنهم ذوو تجربة، مستعدين للمغامرة بكل رصيدهم السياسي لأجل لحظات متعة عابرة.
يُلحظ، في هذا السياق، اختلاف التعامل البريطاني مع هذا الأمر عن بقية مجتمعات أوروبا. في فرنسا، مثلاً، لا يهتمون بالحياة الخاصة للسياسي، بمن فيهم سيد قصر الإليزيه، الذي إذا اتخذ خليلة احترم الجميع، وفي مقدمهم الصحف وغيرها من وسائل الإعلام، خصوصية الرئيس. هل يبرر هذا الاختلاف أن يخلط السياسي بين المسؤولية وبين الإشباع غير المشروع لشهوات الجسد؟ بالتأكيد كلا. سوف يظل هكذا خلط يحمل الكثير من الخطر. يكفي أن يزل لسان مسؤول ما خلال ما يسمى «همسات الوسادة»، كي يتسبب، لاحقاً، بأمر جلل. الحكمة تقول، باختصار، إن النجاة من تبعات الجمع الخاطئ بين مسؤوليات القرار، وإرضاء النزوات الخاصة، مستحيل كاستحالة خلط الزيت بالماء.
7:28 دقيقة
TT
مسؤوليات الساسة ونزواتهم
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة