خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

مخاطبة السلطان باللف والدوران

لصقت بالخليفة المنصور شتى الروايات، حتى ليكاد يبزّ هارون الرشيد في ذلك. وكان مما ذكروه عنه أن أعرابياً قصده في شكوى ضد أحد الولاة اغتصب أرضه. قال الأعرابي له: «أصلحك الله. أأذكر حاجتي لك أم أضرب مثلاً؟». بالطبع، فضّل المنصور أن يسمع المثل بدلاً من ذكر الحاجة. قال الأعرابي: إن الطفل الصغير يا مولاي إذا نابه أمر يكرهه يفزع إلى أمه، إذ لا يعرف غيرها، وظناً منه أن لا ناصر له سواها. فإذا ترعرع واشتد عوده يرجع لأبيه لينصره. فإذا كبر وصار رجلاً شكا أمره للوالي لعلمه أنه أقوى من أبيه. وإذا لم يسعفه الوالي، يشكوه للسلطان لعلمه أنه أقوى من الجميع. وإذا لم يسعفه السلطان أيضاً، شكاه إلى الله تعالى لأنه أقوى من السلطان.
واصل الرجل كلامه فقال: لقد نزلت بي نازلة. وليس من أحد فوقك وأقوى منك غير الله تعالى. فإن أسعفتني فبها؛ وإلا شكوت أمري لله في الموسم. وإني متوجه لبيته الحرام فأشكو حالي إليه. فأجابه المنصور قائلاً: بل ننصفك.
وبعد أن سمع موضوع شكواه، كتب إلى الوالي وأمره بأن يعيد للرجل ضيعته. هكذا اعتاد القوم عرض شكاواهم على ذوي الأمر باللف والدوران، وسرد الأمثلة، وطبعاً الاستشهاد بالشعر. ونحمد الله على ذلك. فلولا هذا الأسلوب لما وصلتنا حكايات «كليلة ودمنة» وأقاصيص «ألف ليلة وليلة». ولو تأملنا قليلاً لأدركنا كم نحن مدينون لغضب أولئك السلاطين وبطشهم، فلولا ذلك لما تفتقت قرائح العقلاء والأدباء عن كل هذه الحكايات والأمثلة والأشعار.
على غرار هذا ما ورد عن المأمون. ومنه حكاية تتردد أيضاً لغير المأمون. وقد أوردها شهاب الدين الأبشيهي. قال: أرق المأمون ذات ليلة ولم يستطع أن ينام... ربما استيقظ ضميره، وهو ما يحدث أحياناً لبعض المسؤولين عند النوم. تذكر المأمون ما فعله بأخيه الأمين فلم يستطع أن ينام. فاستدعى سميراً ليحدثه... حدثه فقال: يا أمير المؤمنين أصلحك الله تعالى. قالوا إنه كانت هناك بومة في الموصل ومثلها في البصرة، فخطبت بومة الموصل بنت بومة البصرة لابنها. فقالت بومة البصرة: لا أجيب خطبة ابنكم لابنتي حتى تجعلي في صداق ابنتي مائتي ضيعة من الخرائب. فقالت بومة الموصل: لا أقدر على ذلك، ولكن إذا دام والينا هذا - سلمه الله - علينا سنة واحدة، فإنني سأستطيع أن أسلم لك ما تطلبين من خرائب!
يقول الأبشيهي، ولا أريد أن أجادله في الأمر، إن المأمون فطن لمغزى القصة، فاستيقظ وجلس للمظالم وأنصف الناس بعضهم من بعض، وتفقد أمور الولاة والعمال والرعية.
ومنذ ذلك الزمن، تعلم شبان العراق أن يكلفوا أمهاتهم بالخطبة واختيار الزوجات الصالحات لهم.