سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

الحصار المسموم

الطبيعة تنتقم لنفسها، وقد تكون أشد فتكاً بمهاجميها مما يمكن أن نتخيل، فمن التسونامي في آسيا إلى أعاصير أميركا، تبدو حتى الدول الأكثر حرصاً على سلامة سكانها في حيرة من أمرها أمام الغضب الذي لا مرد له. وما أنبأنا به تقرير «المنتدى العربي للبيئة والتنمية» الذي عُرض في بيروت منذ أيام، ينذرنا نحن أيضاً بخطر داهم، وبأننا من بين الأسوأ، إن لم نكن الأشد سوءاً، بسبب التدحرج البيئي المتواصل منذ عشر سنوات. وبما أننا من الأمم التي تنجب كثيراً وتزرع قليلاً، فقد أصبحنا «أكبر منطقة عجز غذائي في العالم»، والفجوة تتزايد بين الإنتاج والاستهلاك، في حين النمو العددي يترافق مع إسراف وتبذير يبلغان حد الجشع في كل سلوك، والجوع بدأ بالزحف، ولعله لن يتوقف، دون إجراءات حاسمة. وليست الحكومات وحدها من يرتكب الخطايا، وإنما الأفراد كذلك لقلة إدراك، وإن كانت المسؤولية جامعة، والتقرير يرى التعاون البيني العربي أكثر من ضروري، لتفادي الكارثة.
وبينما تقضم الأسلحة البنيان وتأكل البنى التحتية، وينشغل الناس بالحروب عما هو أدهى، فإن استدراك الوضع الحالي، سيكون صعباً وبناء استراتيجيات مشتركة يبدو بعيد المنال. وما لا يقله التقرير أن الجمعيات البيئية تغزو دولنا، لكنها في غالب الأحيان تبقى فاعليتها ضعيفة، وجديتها مشكوكاً في أمرها، إلا القليل منها.
ومع أن لبنان بقي إعلامياً، في صدارة الأكثر تلوثاً بسبب حملات: «طلعت ريحتكم» و«كلن يعني كلن» التي أطلقت ضد الزعماء في وسط بيروت رغبة في تنحيتهم جميعاً، بسبب أزمة النفايات التي اجتاحت العاصمة وبعض المناطق منذ عامين، إلا أنه شبيه جداً بجيرانه، ولا يختلف عنهم إلا بصوت أعلى، وتحركات تتمتع بحرية أكبر.
وبينت دراسات أجريت في البلاد، أن نسبة الإصابة بأمراض السرطان ارتفعت ما يقارب ثلاثة أضعاف ما كانت عليه في تسعينات القرن الماضي. والإصابات ترتفع في مناطق صناعية كثيرة في العالم، غير أن مأساة العرب أنهم يموتون لا بسبب وفرة إنتاجهم كما هو حال عظيم الأمم، وإنما لقلة حيلتهم وسوء إدارتهم، لأصغر المشروعات. فقد حصد مصنع للإترنيت في شمال لبنان، منذ نهاية القرن الماضي، عائلات بأكملها، قبل أن يغلق أبوابه، ولا تزال حالات المتضررين تكتشف إلى اليوم بعد أكثر من عشرين سنة على التعرض لسمه. ومن غير المبرر لتلوث الهواء في المدن العربية أن يبلغ خمسة إلى عشرة أضعاف الحدود القصوى التي حددتها منظمة الصحة العالمية، وأن تصل نسبة التلوث في منطقة الحمراء المكتظة بالسكان في قلب بيروت إلى 200 في المائة؛ لأن الدولة تعجز عن تأمين الكهرباء، ومولدات الديزل تحل بين البيوت وتملأ الجو بالمواد المسرطنة. وإذا أضفت إلى هذا غياب النقل المشترك ودخان السيارات المتوقفة في ازدحام السير، فالأمر لا يدعو إلى التفاؤل.
التقارير في الموضوع كثيرة، إلا أن كل جديد يعلن، لا بد يثير هلعاً؛ إذ يبدو أن «الاقتصادات العربية ضمن أقل البلدان كفاءة على الصعيد العالمي في استخدام الطاقة» وفي توليد الكهرباء ونقلها وتوزيعها. وهي أيضاً من بين الأكثر تخلفاً في استخدام المصادر النظيفة والمتجددة. ولبنان ليس نموذجاً نافراً، بدليل أن 95 في المائة ممن تم استطلاعهم من العرب، وهي نسبة مهولة، عبّروا عن شعورهم بأن بلدانهم لا تقوم بما يكفي لحمايتهم بيئياً. وهم محقون لأن عشرات الخطط والاستراتيجيات، ومئات الخطابات دبجت، في حين بقي التنفيذ بطيئاً أو مشوهاً أو متوقفاً بالكامل.
المنطقة العربية مهددة بالجوع والعطش والأمراض الفتاكة والغرق في الظلام إن لم تعد النظر في أولوياتها، وإن لم يستفق أبناؤها من غفلة طالت وحروب امتدت ودمّرت. ولا بد أن نضيف تخريب التربة بالكيماويات ومصادر الماء بسبب الإهمال وسوء إدارة الصرف الصحي، والقضاء على الأنهار بالفوضى وانعدام النظافة. فأهل دجلة يشكون العطش، ولم ينقذهم بترولهم من حرمان النور، وسوريا الممتدة أرضها الزراعية شاسعاً، تنتظر المساعدات الإنسانية، وخيرات لبنان تتحول لعنة على مواطنيه، وحتى أمطاره تقذف إلى المتوسط مع ما تيسر من مخلفات؛ مما بات يثير خوف السابحين.
يحصل في بلاد الأرز أن تختار منزلاً مشرفاً على البحر، فتفاجئك الخطط الغرائبية بجبل نفايات يسد الأزرق ويحيله نتناً ووباءً. يحدث أيضاً، أن تسكن في مبنى تصله مياه عذبة من بئر منحتك إياها الطبيعة، فتصبح مالحة أو ملوثة، وفي الحالين لا تصلح مياهها لشيء؛ لأن فوضى الرخص أتت على المياه الجوفية.
يبدو للوهلة الأولى أن الدراسات العربية، لم تترك صغيرة إلا وبحثت فيها، وأن العطب في التنفيذ لكثرة ما يستعرض من حلول، وهو صحيح. لكن النقص لا يزال كبيراً في الأبحاث حول تغير المناخ وتأثيره علينا، وهناك من لا يريد أن يصدق الفكرة أصلاً، وكذلك الخطط البيئية الشاملة التي نحتاج إليها لوضع تصور عام لما يجب أن تكون عليه مسالكنا وأهدافنا. تهتم فئة ما بمطمر هنا، ومجموعة غيرها بمصنع هناك، أو حكاية تلوث على شاطئ في منطقة ما. هذا كل ما يستطيعه فريق عمل صغير، يعمل بمبادرة خاصة، أو مركز بحثي في جامعة يدفعه الواجب لقياس ظاهرة محدودة في حي صغير. ويبقى العمل الأكبر على عاتق وزارات البيئة، التي لا تزال أقرب إلى ديكور حكومي يعمل بالحد الأدنى. ويتوجب، ربما، أن تتحول إلى ما هو أهم من وزارة الدفاع والصحة. فالقضية حياة أو موت لشعوب محاصرة بالسموم بحراً وبراً وجواً.