علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

تتمة لخبايا وخفايا بين سيد قطب وعبد الناصر

أرجِّح أن ولفرد كانتويل سميث هو الذي اختار جون. ب. هاردي لترجمة كتاب سيد قطب «العدالة الاجتماعية في الإسلام» إلى الإنجليزية، وهو الذي أقنع المجلس الأميركي للجمعيات الثقافية بنشره، وإصدار سلسلة «برنامج ترجمة أعمال مفكري الشرق الأدنى» التي كانت تلك الترجمة باكورة أعمالها.
ولأن وراء الأكمة ما وراءها، ادّعى سيد في البداية، في رسالة من رسائله إلى صديقه الناقد أنور المعداوي، أنه كتب إليه أستاذ في جامعة هاليفاكس بكندا في هذه الأيام في ترجمته - يقصد كتابه «العدالة...» - ليُنشر في أميركا، وأنه أجابه بالموافقة. وأراد بهذا الادعاء أن يوحي بأن فكرة ترجمته أتت بمبادرة من أستاذ في تلك الجامعة!
سيد كان في البداية فخوراً بترجمة كتابه إلى الإنجليزية للسبب الذي أومأت إليه في آخر كلامي في الرسالة السابقة، لكن بعد أن صدرت الترجمة سنة 1953، ما عاد مهتماً بهذا الأمر. لنحاول معرفة السبب.
صدور الكتاب المترجم أتى متأخراً، وفي السنة التي صدر فيها هذا الكتاب المترجم عن المجلس الأميركي للجمعيات الثقافية صدرت أيضاً ترجمتان إلى الإنجليزية لكتاب خالد محمد خالد «من هنا نبدأ» ورد محمد الغزالي عليه في كتاب «من هنا نعلم». على الأغلب أن الذي اختار هذين الكتابين للترجمة هو ولفرد كانتويل سميث، وأنه هو الذي اختار إسماعيل الفاروقي، ليقوم بها.
كتاب خالد محمد خالد وكتاب محمد الغزالي تُرجما إلى الإنجليزية في السنة نفسها التي صدر فيها هذان الكتابان بالعربية. وهذان الكاتبان وقت صدور ترجمة كتابيهما، كانا كاتبين شابين، والأول كتابه الذي ترجم إلى الإنجليزية هو أول كتاب ألّفه في حياته. أما الثاني فكتابه تبع لكتاب الأول.
سيد قطب كان يرى أن خالد محمد خالد ومحمد الغزالي أقل شأناً منه، إضافة إلى أنه كان ساخطاً على كتاب الأول لنزعته الدينية التحررية، ولأنه حقق انتشاراً واسعاً في العالم العربي، فتعددت طبعاته في ذات السنة التي صدر فيها.
لكل هذه الأمور التي ذكرتها في هذا الشرح أُحبط سيد، وما عاد مهتماً بأمر ترجمة كتابه إلى الإنجليزية، وهي الترجمة التي كان يريد أن يباهي بها شيوخ الأدب، وكان ينتظرها بصبر فارغ، فإذا بالمجلس في ترجماته يساويه بمن لا يرى أنهم من أكفائه ولا من أنداده!
وهناك سبب آخر، هو أنه في تلك السنة التي صدرت فيها ترجمة كتابه إلى الإنجليزية كان قد انضم إلى «الإخوان المسلمين» وتخلّى عن العمل مع الضباط الأحرار، وبدأ يشنع بعلاقتهم بأميركا، بأنها علاقة عمالة، ولأن وراء الأكمة ما وراءها - كما قلنا سابقاً - رأى أن أي حديث عن كتابه المترجَم قد يلفت النظر إلى ثغرة في تاريخه القريب تتعلق بملابسات تأليفه الكتاب وابتعاثه إلى أميركا، وهما أمران غير منفصلين، فيُتَّهم بما يتهِم الضباط الأحرار وسواهم به.
نشأت صلة بين سيد بعد عودته من أميركا وبين الاقتصادي، غزير التأليف والترجمة في ميادين مختلفة، راشد البراوي الذي كان يعمل موظفاً في برنامج «النقطة الرابعة» الأميركي. عمل هذا الرجل موظفاً في هذا البرنامج هو ما يفسر لنا استدعاء الضباط الأحرار له من جامعته في الإسكندرية، ليصوغ لهم عدداً من مشاريعهم، مع أنه كان آنذاك ذا توجه ماركسي صريح.
مما يعجب منه أن سيد تنكر لكل الذين عدّدنا أسماءهم في الرسالة السابقة، ممن كان لهم فضل عليه في بعثته إلى أميركا، مصريين وأجانب، فنالهم بالسوء!
ومما يستحق أن يُذكر في هذا المقام أني سألت حرم أحمد حسين، عزيزة شكري، قبل وفاتها بسنوات، إن كانت تعرف أن سيد قد عرّض بزوجها وبها وبجمعية الفلاّح في كتابه «لماذا أعدموني» - الكتاب هو تقرير كتبه سيد بخط يده في أثناء التحقيق معه في قضية تنظيم 1965، ونُشر في جريدة «المسلمون»، ثم نُشر في كتيب ضمن سلسلة «كتاب الشرق الأوسط»
- وسألتها عن صلة زوجها بسيد.
فأجابت: إنها لا تعلم ماذا قال عن زوجها وعنها وعن جمعية الفلاح، ونفت أن يكون بين زوجها وبينه صلة شخصية.
الحق أنه عرّض في ذلك التقرير بمحمد فؤاد جلال وكيل جمعية الفلاّح، أكثر مما عرّض برئيسها أحمد حسين وحرمه.
فلقد قال عن محمد فؤاد جلال - الذي شغل منذ قيام الثورة إلى سنة 1953، منصب وزير الشؤون الاجتماعية ثم منصب وزير الإرشاد القومي والمتوفى سنة 1963: «إنه يغذي الخلاف بين رجال الثورة والإخوان المسلمين، ويضخم المخاوف منهم. ويستغل ثقة الرئيس جمال عبد الناصر به، ويبث هذه الأفكار في مناسبات لم يكن يخفيها عني لأنه كان يراني كذلك مقرباً من رجال الثورة وموضع ثقتهم، مع ترشيحهم لي لبعض المناصب الكبيرة المهمة، ومع تشاورنا المفتوح في الأحوال الجارية إذّاك... المهم أنني كنت أربط بين خطة الأستاذ فؤاد وجمعية الفلاح، كمنظمة أميركية الاتجاه والاتصال وبين إشعال الخلاف بين الثورة والإخوان...».
يحاول سيد في هذا التعريض الرخيص بالرجل المتوفى وبجمعية الفلاح أن يفصل بين الضباط الأحرار وبين جمعية الفلاح وأعضائها، بحيث يجعل الجمعية وأعضاءها دسيسة أميركية تسببت في إحداث تصادم بين رجال الثورة والإخوان المسلمين، ويحاول بمنطق ثأري تصفية حسابات قديمة مع مسؤولين في وزارة الشؤون الاجتماعية وفي وزارة المعارف، كانوا لا يقرّون مقترحاته الدينية المتشددة في صياغة البنية الثقافية والتعليمية والآيديولوجية على نحو عام، للمجتمع والدولة في مصر، رغم أنهم لم يهاجموه بمثل ما هاجمهم، بل إن فيهم - وعلى رأسهم إسماعيل القباني الذي كان وزيراً للمعارف - من تعامل معه برفق ونبل وسمو. وهذا ما تشهد به إضبارات تلك الوزارة.
محاولته تلك التي صورت الأحداث بما هي ليست عليه تسترعي النظر، فخلاف رجال الثورة مع الإخوان المسلمين الذي تطور إلى صدام عنيف، لا شأن لمحمد فؤاد جلال به، وخلافه هو مع رجال الثورة ليس كما صوره، بأنه ذهب ضحية محاولته – كما قال - لمنع التصادم بين رجال الثورة والإخوان المسلمين الذي كان يلمح بوادره، ولكنه عجز وتغلب الاتجاه الذي كان يقوده محمد فؤاد جلال وجمعية الفلاح، بدفع الخلاف إلى حدّه الأقصى.
لا يمكن وصف تلك المحاولة إلا بأنها محاولة بائسة. فهو يتجاهل أنه في النشرة السرية التي كان يحررها تحت عنوان «الإخوان في المعركة» اتهم الضباط الأحرار - وفي مقدمتهم عبد الناصر - بما اتهم به جمعية الفلاح، بعبارات أشنع. وهذا مُثبت في محاضر التحقيق في قضية 1954.
يُلحظ أن عبد الناصر لم يستخدم في إعلامه ذات السلاح الذي استخدمه سيد ضده، لا في قضية 1954، ولا في قضية 1965.
السبب في ذلك أنه قدّر أن فتح ملف بعثة سيد إلى أميركا، قد يجر إلى فتح ملف علاقته وعلاقة الضباط الأحرار الخاصة والسرية مع أميركا قبل الانقلاب وفي أثنائه وبعده.
أستاذة دلال البزري...
بعد أن قدمت هذه الإضمامة، سأجيب عن السؤال الذي طرحته في الرسالة السابقة: لماذا سمح النظام الناصري لسيد بتأليف كتب جديدة؟
مع استياء عبد الناصر وغضبه وحنقه على سيد بسبب اشتراكه مع فصيل حسن الهضيبي في الإخوان المسلمين في محاولة الانقلاب عليه، وبسبب اكتشافه أنه هو كاتب المناشير التي جرّدته من وطنيته المصرية وطعنت في نزاهته الشخصية، إلا أنه بعد أن أمضى سنوات في السجن، ربما أن ذلك الاستياء والغضب والحنق قد هدأ. ولعل سيد قدم التماساً يطلب فيه سماحاً له باستئناف التأليف، فوافق على ذلك، لدواعٍ إنسانية وهي أنه مريض، ومدة عقوبته طويلة.
ويرفد هذا السبب الذاتي سبب موضوعي، وهو أن عبد الناصر يرى في سيد – كما يرى كثيرون فيه – كفاءة عالية في مجال الكتابة الإسلامية، وأنه نِدٌّ للكتاب المصريين الماركسيين المتميزين. ومما ينبغي التشديد عليه في هذا السياق أن عبد الناصر مع إنشائه الاتحاد الاشتراكي سنة 1962، ومع إدخاله شيوعيين في هذا الاتحاد ابتداءً من سنة 1964، استمر على رأيه في أن تكون الشيوعية محرّمة في بلاده، كما كان حاله قبل اعتلاء الضباط الأحرار السلطة.
مما يشير إلى رؤية عبد الناصر بأن كتب سيد الإسلامية تحقق غرضاً منشوداً في صدّ الغواية الشيوعية، توفُّر كتاب «في ظلال القرآن» في طبعته المنقحة، وكتبه الجديدة من كتاب «هذا الدين» إلى كتاب «معالم في الطريق»، حتى في مكتبات السجون السياسية.
إن عبد الناصر حين أفسح لكتاب «معالم في الطريق» أكثر من مرة، لم يكن متنبهاً إلى خطر الأفكار الدينية المتشددة فيه. وللأمانة لا يوجد عالم دين ولا مثقف مدني في تلك الفترة كان يتصور أن كتباً دينية متشددة ومغالية، قد تصنع موجة عاتية من التعصب الديني والتطرف السياسي تكون الصدارة لها فيما بعد في العالم الإسلامي، وهي الموجة التي ما زلنا نعيش عتوها من عقود إلى يومنا هذا. وللحديث بقية.