حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

هل من مجال للمقارنة؟

تعالوا نتخيل المشهد: مشروع اقتصادي استثماري عملاق غير مسبوق في عالمنا العربي، تكلفته 500 مليار دولار، يجمع بين قارتي آسيا وأفريقيا، يمتد على مساحة 26500 كلم مربع، أي مرتين ونصف مساحة لبنان، ويمتد بطول 468 كلم، ويتكئ على جبال تبوك التي ترتفع 2500 متر ويكللها الثلج شتاءً. مشروع يجمع بين المملكة العربية السعودية والأردن ومصر؛ بلدان يزيد تعداد سكانها على 130 مليون إنسان، أكثر من 70 في المائة منهم تحت سن الثلاثين. مشروع يقول بالفم الملآن إن الثروة ستكون لرفاه الإنسان وراحته، وإن قوة شابة متوثبة ستقيم الصناعات الأساسية: الطاقة والتكنولوجيا والإعلام والمواد الغذائية والترفيه والسياحة.
تعالوا نتخيل المدن الجديدة التي ستنشأ: «ريفييرا» كاملة في أعلى البحر الأحمر وباتجاه خليج العقبة، ومئات الآلاف من فرص العمل سنوياً. ولنتخيل الأهم، وهو انعكاس ذلك على حياة الناس، حيث النهوض سيشمل كثيراً من الميادين، وحيث سيكون متاحاً أمام أجيال جديدة إمكانية التنافس في الإبداع والابتكار. وفقط كي نرى المشهد كاملاً، وندرك أهميته، فإن صاحب القرار ومطلق مشروع «نيوم» المدهش لم يربط بين البدء بهذا المشروع العملاق والظروف التي تعيشها منطقة الخليج ومجمل بلداننا العربية، بل أكد عملياً أنه إلى جانب المواجهة المفتوحة في اليمن وكل المنطقة، مع التحدي الإيراني المسؤول عن زعزعة استقرار المشرق العربي وتعميم الخراب والاقتلاع والتهجير والتغيير الديموغرافي، فالرياض لن تتوانى عن القضاء على بقايا التطرف في السعودية.
ما يجري في لبنان يُعيدنا بسرعة إلى أرض الواقع؛ الرئيس الإيراني حسن روحاني في رده على حصار العقوبات الآتي، كرر مقولة النفوذ والسيطرة على المنطقة، وأنه ما من قرار يتخذ في لبنان دون رأي إيران ورغبتها، وكاد الموقف المهين الصلف والمُقزز يمرُّ في لبنان مرور الكرام (الرئاسة تجاهلت، ومقربون من الخارجية تحدثوا عن «تحريف»)، لولا تغريدة يتيمة من رئيس الحكومة، قال فيها إن لبنان بلد مستقل وسيد... تغريدة بالتأكيد غير كافية، وهي موجهة للداخل لمحاكاة حساسية لدى جمهور واسع محبط عشية موسم انتخابي، وفي ظلّ وضع دقيق.
الاستباحة الإيرانية هذه ما كانت لتكون لولا فائض القوة التي يمثلها «حزب الله»، كذراع عسكرية محلية لولاية الفقيه، ولولا الثمار المُرة لـ«التسوية» السياسية. فـ«حزب الله» منذ أن قبض على نتيجة حرب «فجر الجرود»، ووظّفها في خدمة محور «الممانعة»، يتصرف على هواه دونما أي رادع، لأن التسوية التي ذهبوا إليها بصلافة، مع مزاعم عن تخلٍ عن لبنان لتبرير هذا النهج، إنما قامت على مقايضة مفضوحة: بعض «الغنائم» للأطراف السياسية، مقابل التسليم بالقرار السياسي والأمني لـ«حزب الله»، وبالتالي لطهران.
بموازاة التخلي والالتحاق غير المجاني، وسياسة تطويع الناس وترهيبهم من سلاح الدويلة و«الباسيج» اللبناني، وأنه ليس بالإمكان أكثر مما كان، شهد لبنان حدثاً غير مسبوق، مكانه حي السلم، قلب الضاحية الجنوبية معقل «حزب الله»، فعندما تحركت السلطة لإزالة مخالفات، ومسّت مصالح ناس عاديين، انفجر الغضب الذي نقلته كل الشاشات مباشرة على الهواء، مستهدفاً بأقسى السباب «حزب الله» والسيد حسن نصر الله بالاسم، الذي يرسل الشباب للموت في سوريا.
المواطنون، من شبان ونساء، عبروا عن وجع حقيقي كامن، فحمّلوا «حزب الله» المسؤولية لأن سلوكه ونهجه هو ما شجع كثيرين على تجاوز القانون والنظام؛ وهم لم يفعلوا إلاّ ممارسة ما زرعه في رؤوسهم، من عنجهية وسلطان على الناس والأمن والقانون. وعند أول صِدام، بدت بنادق الحزب وترسانته الصاروخية هزيلة وضعيفة. هذا الأمر كان بالتأكيد يحصل في مناطق مختلفة أُغرقت بالبؤس وبالمخدرات وكل أشكال الفوضى، لكن الجديد الآن أنه يتم أمام الملأ، ومن قلب ما يُسمى بالبيئة الحاضنة. ومثل هذا الغضب موجود في كل المناطق، وبوجه كل الطبقة الحاكمة، بعدما كانت نتيجة العام الأول للتسوية السياسية: صفقات - فضائح، واتساع السطو على المال العام، وتخمة من الأزلام في الوزارات والمؤسسات؛ والنتيجة الحتمية تعميم البؤس ومزيد من الانهيار الاجتماعي.
كل معطيات البلد تشي بأن الرد من الناس آتٍ في القريب، والغليان العام مرشح لأن يترجم في صناديق الاقتراع؛ أقصر الطرق لبدء مسيرة التغيير وإرساء القانون. ويكفي بدء محاصرة أوكار الفساد، وتحويل فاسدين للقضاء، حتى يبدأ لبنان مسيرة تحقيق العدالة الاجتماعية، ومسيرة استعادة حكم القانون والتزام الدستور والعودة إلى قيم الجمهورية، فيعود لبنان لذاته، ليشكل رافدَ إبداع يلتقي مشروع «نيوم»، الذي يستحق كل الاهتمام كونه يحمل ملامح أساسية لتغير منشود لن تبقى آثاره محصورة بالرياض والقاهرة وعمان.