عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

الفوضى غير الخلاقة

«الفوضى الخلاقة»، بإلقاء القنابل على المدن وإنهاء نظام مستقر «لا يعجبنا»، هل يولد من ركامها نظام متكامل كخطوة نحو الأرقى؟
اندلع السؤال من أزمة اليوم لمؤسسات كانت صروح الفكر الحر وفلسفة الإبداع الإنساني منذ بعثت أسرة ميدتشي في 1439 الروح في مفهوم مؤسسة الجامعة بتأسيسها الأكاديمية اللاتينية، بترجمة ما أنقذ من كتب ووجد طريقه إلى القسطنطينية مما بقي من أول جامعة للعلوم والفلسفة والإبداع «ببيبلوتهيكا ألكساندرينا» «مكتبة الإسكندرية» (300 ق. م - 391 ميلادية)، ألف عام بعد إغلاق البطريرك ثيوفيلوس مبناها بأوامر روما.
زوبعة الأسبوع أثارها طلب تلقاه عدد من الجامعات البريطانية من كريس هيتون - هاريس نائب مجلس العموم عن حزب المحافظين الحاكم.
طلب تفاصيل المناهج التي تتناول الدراسات الأوروبية وقائمة الأساتذة الذين يحاضرون في موضع البريكست (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي).
نص الخطاب كان محايداً في طلبه المعلومات.
الجامعات والصحافة اليسارية، خاصة «بي بي سي»، بدأت حملة احتجاج بعناوين مثل «تهديد استقلال الجامعات»، ومثل «نائب بارز في حزب الحكومة فتح الباب أمام إنشاء بوليس للفكر» - عبارة من أدبية جورج أورويل «1984» لنظام شمولي أدان الأشخاص بتهمة ما يفكرون فيه بعد القضاء على حريات أساسية كالاختيار، والنشر والتعبير.
للموضوع خلفيات متعددة:
الأولى أن النائب هيتون - هاريس من البريكستيين أو الخروجيين، دعاة استقلال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي. الثانية أن الصحافة اليسارية (وكل الصحافة الإذاعية والتلفزيونية) تخوض معركة حادة مستمرة متسقة لا تتغير في محاولة إبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. الثالثة أن معظم الجامعات والأكاديميين مع بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي لأسباب معقدة بعضها آيديولوجي، ومعظمها عملي براغماتي نفعي.
وفي الأشهر الأخيرة أثار عدد من نواب مجلس العموم هذه القضية وقدم بعضهم نماذج من منشورات وكتيبات دعائية ممولة من الاتحاد الأوروبي أو أصدرتها جهات مؤيدة للاتحاد الأوروبي أو بعض الأكاديميين أنفسهم. هذه المطبوعات تلقاها الطلاب والطالبات، وبعضهم أبناء وبنات نواب في البرلمان، من يد أساتذتهم أنفسهم الذين يفترض أنهم يدرسون العلم بعيداً عن السياسة ويتعاملون مع عقول الطلاب وكأنها صفحات بيضاء يملأها الطالب نفسه بغريزة الاكتشاف والذهنية النقدية التي يفترض أن يصقلها التعليم الجامعي.
وامتداداً من هذه الزاوية فإن معظم الجامعيين طلاباً وهيئة تدريس مناهضون لحزب المحافظين إلى حد الكراهية، فهم تحت الانطباع بأن سياسة المحافظين هي إنقاص الإنفاق على التعليم الجامعي. المفارقة أن مرتبات مديري الجامعات ووكلائها والشرائح العليا من إداراتها (ما بين 150 ألفاً إلى 470 ألف جنيه سنوياً) تفوق الدخل السنوي لرئيسة الوزراء، وبعضهم ثلاثة أضعاف مرتب رئيسة الوزراء (إجمالي الدخل 142 ألفاً و500 جنيه ستزداد في نهاية السنة المالية بستة آلاف جنيه هي علاوة نواب البرلمان، فإجمالي الدخل يشمل المرتب البرلماني). لكن الانطباع لديهم يتغلب على الواقع.
البعد الآخر، وربما الأهم، أن الأكاديميين لا يكفون عن المطالبة بحرية الحصول على المعلومات التي لا يجب حجبها عمن يطلبها، كما يطالبون أيضاً بالشفافية.
وهاهم الأكاديميون يوجهون الاتهامات، لنائب منتخب من أبناء دائرته وممثلهم في البرلمان، لمحاولته الحصول على ما يروّجون له.
وعن الشفافية تضطر المؤسسات إلى اللجوء لقانون حرية المعلومات (قانون صدر أثناء حكومة توني بلير، بتأسيس مفوضية المعلومات التي تدرس الطلبات وتجبر المؤسسة على تقديم المعلومات المطلوبة إذا كانت في الصالح العام أو تتعلق بمصالح وخصوصيات الشخص أو الجهة المتقدمة بالطلب). هذه الجامعات نفسها تضفي السرية على الترقيات ومرتبات الشريحة العليا، وطرق التدريس، وبلا طلب حرية المعلومات ما كان الرأي العام اطلع على مدى ارتفاع مرتبات وكلاء ومديري الجامعات، خاصة أنهم، في كثير من الأحوال، يتلقون مرتباتهم من تمويل دافع الضرائب (بعض الجامعات هي تمول من مؤسسات خيرية أو من استثمارات أوقاف التركات أو التبرعات).
«بي بي سي» بدورها لا تفصح عن مرتبات عامليها رغم أن تمويلها يأتي مباشرة من الشعب في شكل رخصة التلفزيون، كما تخفي تقارير تحقيقات عدم حيادها في أمور كثيرة (بي بي سي غير محايدة في قضايا كالاتحاد الأوروبي، والاحتباس الحراري، والإجهاض، والإرث الإمبراطوري، ومثيلاتها من القضايا الليبرالية واليسارية)؛ ولهذا لعبت «بي بي سي» دور رأس الحربة ورافع راية الدفاع عن استقلال الجامعات مما صورته على أنه محاولة من التيار البريكسيتي في حكومة المحافظين فرض الوصاية على الجامعات؛ رغم أن وزير التعليم الجامعي جو جونسون قال لـ«بي بي سي» إن النائب هيتون - هاريس يجمع معلومات وأرقاماً عن كتاب يؤلفه حول الموضوع ذاته، وإن كثيراً من أولياء الأمور يطلبون كتابياً من الجامعات تزويدهم بمعلومات مماثلة لمساعدة أولادهم على اختيار الجامعات التي يتقدمون للالتحاق بها.
المفارقة أن الصحافة، و«بي بي سي» التي بالغت في إثارة الموضوع طوال الأسبوع، تتغافلان عن الظاهرة التي أثرناها الأسبوع الماضي، وهي التيار اليساري الهستيري في الاتحادات الطلابية و«حركة مومنتم» (الزخم) التي تدعم زعيم العمال جيرمي كوربين، في فرض رقابة ومنع أي شخصية عامة من إلقاء محاضرة إذا قرروا أنه يميني النزعة أو اتهموه بمعادة المرأة أو معارضته للإجهاض.
اليسار الشعبوي (المؤسسة الصحافية الليبرالية تقصر وصف الشعبوية على الأغلبية التي تصوت لغير ما يرغبون كبريكست أو انتخاب الرئيس ترمب)، سيطر على الجامعات وأرهب إداراتها الأكاديمية لفرض رقابة جعلت الكلمات المعبرة عن الفكر تفقد جوهر قيمتها الموضوعية، فيما يهم في المناخ المسيطر اليوم العاطفة الجماعية غير الموضوعية. ولعل السبب يكمن في أن المناظرات العلنية الموضوعية المنطقية يخسرها اليسار لصالح يمين الوسط؛ ولذا فسيادة اللاموضوعية التي تفرغ اللغة والكلمات من قيمتها الجوهرية تمكن اليسار السائد في الحرم الجامعي من تجاهل الحقائق التي تناقض الواقع وتسمح لهم بإعادة تعريف «الحقيقة» بأسلوب الغاية (وعندهم المثالية بتعريفهم اللاموضوعي) تبرر الوسيلة.
التاريخ أثبت أنه لا يمكن بناء المستقبل المشرق إذا تجاهلنا حقائق الحاضر. الجيل الجديد يتجاهل الحاضر، وقد ينجم التغيير القادم، بالانتخابات طبعاً، عن فوضى بلا أغلبية معقولة لكتلة واحدة أو أسوأ من ذلك، وصول العمال (المعتمد على تيار الشباب هذا) للحكم مما يؤدي إلى خراب اقتصادي حقيقي.
هل سيكون درساً للشباب يصححه في انتخابات تالية؟
لن يولد من رحم الفوضى استقرار وتقدم، لأنها ليست «فوضى خلاقة» ناجمة عن التغير التلقائي في المجتمع بل إن محاولة التحكم في كل أمور الحياة بنظام تفوق على نفسه في اللاموضوعية فكانت الفوضى غير الخلاقة.