مارشا سي. آينهورن
بروفسورة بمجال الأنثروبولوجيا والشؤون الدولية بجامعة ييل، ومتخصصة في قضايا النوع والصحة في الشرق الأوسط
TT

أزمة خصوبة وشيكة بين الذكور... الحل يكمن في الشرق الأوسط

كشفت دراسة كبرى نشرت في يوليو (تموز) من العام الحالي في دورية «هيومان برودكشن أبديت» المعنية بقضايا الخصوبة، أن أعداد الحيوانات المنوية في الرجال تراجعت بنسبة تتراوح بين 50 في المائة و60 في المائة عبر أوروبا وأميركا الشمالية وأستراليا ونيوزيلندا على امتداد 38 عاماً - تحديداً بين عامي 1973 و2011، وربما تقف وراء هذا التناقص عوامل تتعلق بالبيئة وأسلوب الحياة، إلا أن المحصلة النهائية ربما تتمثل في أزمة اجتماعية جديدة ترتبط بضعف خصوبة الرجال، الأمر الذي يحمل تداعيات نفسية مؤلمة على كل من الرجال والنساء.
كانت تلك الأخبار السيئة. أما الخبر الإيجابي فيكمن في أن ثمة مناطق أخرى من العام سبق أن مرت بالفعل بمثل هذا الأمر. على سبيل المثال، تعاني منطقة الشرق الأوسط منذ عقود من مشكلات خطيرة تتعلق بتراجع مستوى خصوبة الرجال. لذا، فإن هذه المنطقة تحديداً ربما تحمل لباقي العالم دروساً يمكن الاستفادة منها.
على مدار الأعوام الـ30 الماضية، ركزت أبحاثي على العقم في أوساط الرجال بمنطقة الشرق الأوسط. واللافت أن التشوهات الجينية في الحيوانات المنوية هناك (السبب الرئيسي للعقم بين الذكور) شائعة على نحو خاص على مستوى المنطقة، وغالباً ما تتكرر في أكثر من فرد داخل العائلة الواحدة. إضافة إلى ذلك، فإن المعدلات المرتفعة للتدخين وتلوث الهواء داخل المدن الكبرى والضغوط العصبية المرتبطة بالحروب أثرت بالسلب على نحو فادح على الصحة الإنجابية للذكور. ومع هذا، نجحت المنطقة بوجه عام في اتخاذ خطوات تكنولوجية كبرى نحو مكافحة العقم في أوساط الرجال، بجانب حدوث تغييرات هائلة في التوجهات الاجتماعية نحو المشكلة.
خلال ثمانينات القرن الماضي، عندما كنت أعكف على رسالة الدكتوراه، سافرت إلى مصر لدراسة مشكلة العقم هناك. كانت تحاليل السائل المنوي للرجال قد أصبحت متاحة على نطاق واسع هناك منذ سبعينات القرن نفسه، وبحلول وقت زيارتي للبلاد كان الكثير من المصريين البسطاء - بينهم الكثير من سائقي سيارات الأجرة الذين تحدثت إليهم - مدركين لحقيقة أن الرجال ربما يعانون من «ضعف» الحيوانات المنوية. كان التقدم العلمي الذي تحقق بحلول تلك الفترة قد أوضح بما لا يدع مجالاً للشك أن العقم ليس عبئاً نسائياً فحسب.
ومع هذا، فإن هذا الوعي العام الواسع النطاق لم يترجم خلال تلك الفترة إلى مكاشفة، فرغم أن سائقي السيارات الأجرة ربما راق لهم تبادل أطراف الحديث، فإن الرجال المصريين كأفراد نادراً ما كانوا يقدمون على الكشف عن المشكلات التي يعانونها فيما يتعلق بالخصوبة، حتى لأقرب الناس إليهم.
وبذلك، ظل يجري التعامل مع مشكلة العقم باعتبارها وصمة عار كبرى تسيء إلى رجولة الشخص. وفي أغلب الحالات، توقع الرجال من زوجاتهم تحمل عبء اللوم على الصعيد العلني عن عدم إنجابهم. إضافة إلى ذلك، فإنه غالباً ما كان يجري الخلط بين العقم بسبب تشوه الحيوانات المنوية والعجز الجنسي.
إلا أن كثيراً من هذه الأوضاع تبدلت اليوم نتيجة عوامل متنوعة، ذلك أن التقدم في مجال الطب والتيسير في المفهوم الديني والجهود الحكومية اجتمعت جميعاً لجعل علاج عقم الرجال أمراً أكثر سهولة وإتاحة. ومع هذا، تظل الحقيقة أن الرجال أنفسهم اضطلعوا بدور هائل في رفع تلك المحاذير على نحو يمكن للغرب التعلم منه.
كانت الخطوات نحو التغيير قد بدأت على أيدي علماء الدين المسلمين الذين كانوا من أول القيادات الدينية على مستوى العالم يوافقون على التلقيح الصناعي بين الزوجين بوصفه وسيلة للتغلب على العقم. وصدرت في مصر عام 1980 فتوى تجيز الاعتماد على تقنيات متطورة للمعاونة في الإنجاب، وانتشر صداها عبر أرجاء العالم الإسلامي. وبالفعل، شهدت العقود التالية ازدهاراً في الاعتماد على التلقيح الصناعي. واليوم، يتميز الشرق الأوسط بواحد من أقوى قطاعات التخصيب الصناعي على مستوى العالم.
خلال التسعينات، حقق التلقيح الصناعي قفزة كبرى مع التوصل إلى نمط جديد وأكثر فاعلية عرف باسم الحقن المجهري، الذي جاء بمثابة فتح علمي كبير منح الرجال الذين يعانون العقم فرصة حقيقية للإنجاب. وشكل دخول الحقن المجهري إلى الشرق الأوسط ثورة تكنولوجية أدت بدورها إلى ثورة اجتماعية، فمع إقدام مزيد من الرجال على «الحقن المجهري» الذي جرى الترويج له على نطاق واسع، تحول العقم من مشكلة تتعلق بالرجال إلى حالة طبية.
ومع توافر الحقن المجهري على نطاق واسع، خرج الرجال الذين يعانون العقم إلى العلن عبر أرجاء الشرق الأوسط. كما أسهمت الحكومات، من جانبها، في هذه العملية ببذلها جهوداً دؤوبة لإتاحة العلاج بالحقن المجهري على نطاق أوسع عبر توفير تمويل عام.
اليوم، يبدي الرجال في الشرق الأوسط انفتاحاً متنامياً إزاء تناول مشكلات العقم التي يعانونها، فلم يعودوا يتحرجون من إخبار أقاربهم أو التشارك في معلومات مع الأصدقاء والزملاء وتبادل نصائح طبية مع آخرين ممن ربما يكونون بحاجة إليها.
من ناحيته، شرح نبيل، رجل يعاني من العقم التقيته في بيروت خلال دراستي للعقم بين الرجال هناك عام 2003، هذا التحول الذي طرأ على التعامل مع مشكلة العقم بين الذكور بقوله: «أصبح الناس مدركين الآن أنها مشكلة طبية، وليس أمراً يتعلق بالذكورة أو الأنوثة. داخل شركتنا، هناك أربعة أو خمسة أنجبوا عبر التلقيح الصناعي. وعليه، فإن الناس داخل الشركة التي أعمل بها يتحدثون عن هذا الأمر بصورة عادية. كما أنني أتحدث مع الجميع عن ذلك، ولا آبه لشيء. لقد سألني رئيسي بالعمل: (أنت متزوج منذ عامين، لكن لم تحمل زوجتك بعد؟) فأجبته: (أحاول، لكنني لم أستطع أن أجعل زوجتي حاملا حتى الآن)». وقد شعر رئيس نبيل في العمل بتعاطف معه جعله يجيز له الاستئذان من العمل دون استقطاع من الأجر، كي يرافق زوجته إلى عيادة التلقيح الصناعي التابعة للجامعة المحلية.
مع اعتراف رجال مثل نبيل بالمشكلات التي يعانونها فيما يتعلق بالخصوبة وسعيهم لتلقي العلاج، فإنهم ساعدوا بذلك في تخفيف وطأة العبء الثقيل الذي كانت تحمله زوجاتهم من قبل، والمتمثل في الأسئلة الفضولية والملحة من جانب أقارب الزوج والنبذ الاجتماعي والتهديدات بالطلاق أو الزواج بأخرى. في الواقع، لقد خلف إقرار علاجات عالية التقنية للعقم بين الرجال ومسارعة الرجال إلى اللجوء إليها تأثيرات إيجابية على العلاقات بين الرجال والنساء عبر أرجاء الشرق الأوسط.
في الحقيقة، ثمة اختلافات مهمة بين الشرق الأوسط والغرب فيما يتعلق بمشكلة العقم في الرجال. داخل الشرق الأوسط، تجيز السلطات الدينية الكثير من أنماط وتقنيات العلاج الأخرى مثل الحقن المجهري. في الغرب، تتوافر منذ فترة بعيدة تقنية الحقن المجهري وعلى نطاق واسع، لكن التكلفة المرتفعة تجعلها بعيدة المنال عن البعض أحياناً، خصوصاً داخل الولايات المتحدة. ومع ذلك، تبقى العقبة الكبرى صمت الرجال حيال الأمر. وهنا تحديداً يمكن النظر إلى الشرق الأوسط باعتباره نموذجاً ينبغي احتذاؤه.
* بروفسورة بمجال الأنثروبولوجيا والشؤون الدولية بجامعة ييل، ومتخصصة في قضايا النوع والصحة في الشرق الأوسط
* خدمة «نيويورك تايمز»