ليونيد بيرشيدسكي
TT

الموقف الروسي من أميركا يثير ذعر ليبراليي موسكو

في الوقت الذي تحاول الولايات المتحدة التآلف مع قدرة روسيا المحتملة على إنجاح أو إفشال المرشحين الرئاسيين لديها، تعيش الأخيرة وهماً آخر خاصاً بها. ويمكن تفهم هذا الوهم من خلال متابعة سلسلة تلفزيونية حول التدخل الأميركي في روسيا حظيت بمشاهدة كبيرة في الفترة الأخيرة، عبر القناة التلفزيونية الرسمية للبلاد.
وتحمل سلسلة الحلقات (المتاحة حالياً عبر «يوتيوب»، لكن بالروسية فقط) اسم «النائمون»، وتتألف من 8 أجزاء تشكل الموسم الأول. واللافت أن المسلسل يضم شخصيات جرى رسم صورتها على نحو يشبه الخصم السياسي العتيد لبوتين، أليكسي نافالني، و«منظومة الليبراليين» داخل صفوف الحكومة، وصحافيين ملوثي السمعة، وصاحب مصنع، بل والسفير الأميركي السابق مايكل ماكفول (الذي أعرب عن بهجته بالصورة التي جرى بها تصوير شخصيته). وتبعاً لهذا المسلسل، فإن جميع أبناء مجتمع موسكو تقريباً الذين لا يعملون لحساب وكالة الاستخبارات الداخلية الروسية (المعروفة اختصاراً باسم «إف إس بي»)، إما فاسدون وإما تلوثوا بالتأثير الأميركي وإما عملاء جرى تجنيدهم لصالح وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية («سي آي إيه»)، لكنهم في حالة سبات في انتظار أوامر «التفعيل».
الأدهى من ذلك، أن بعض عملاء «إف إس بي» -الأكثر ميلاً تجاه الغرب- يعملون بالفعل لحساب «سي آي إيه».
وعلى خلاف المسلسل الأميركي الذي يدور حول عالم الاستخبارات ويحمل اسم «الأميركيين» وتدور أحداثه في عهد الرئيس رونالد ريغان، فإن شخصيات وأحداث مسلسل «النائمون» الروسي تبدو شديدة الشبه بالحاضر.
وعبر سلسلة من أعمال القتل (يُقتل الليبراليون واحداً تلو الآخر، ويتعرض نافالني للاختطاف) ويقع هجوم إرهابي ضد مسيرة مناوئة لوكالة «إف إس بي»، وتحاول «سي آي إيه» زعزعة استقرار روسيا، وتعطيل اتفاق بينها وبين الصين حول الغاز الطبيعي.
ويبدو أن هذا الجزء من أحداث المسلسل جرى استلهامه من اتفاق جرى توقيعه بالفعل عام 2014، سرعان ما تعرضت روسيا في أعقابه لعقوبات جرّاء ضمها جزءاً من أوكرانيا.
في النهاية، يجري إحباط محاولة «سي آي إيه»، رغم نجاح عميل يتبع واشنطن في تنفيذ تفجير استهدف وفداً صينياً، وانتقل لاحقاً ضابط الاستخبارات الأميركي المسؤول عن العملية إلى أوكرانيا -كذلك ضابط وطني من «إف إس بي».
في إطار عالم «النائمون»، يجري تصوير القناعات الليبرالية والميول تجاه الغرب باعتبارها مؤشرات على نزوع نحو الخيانة.
ويتهم هؤلاء الدولة بالقمع، فقط لأنهم أعداء روسيا ويشكلون «طابوراً خامساً» داخلها.
خلال المسلسل، يقول البطل وهو صحافي بارز وبالطبع عميل لدى «سي آي إيه»: «نحن أولئك الذين ظنوا منذ 3 أعوام فقط أن ثمة حرية تعبير داخل هذا البلد. واعتقدنا أن الحضارة ستأتي إلى بلادنا في غضون فترة قصيرة. نحن الذين اعتقدنا أن روسيا من الممكن أن تتحول إلى بلد طبيعي».
من جانبي، شاهدت المسلسل في أثناء وجودي في برلين، وبذلت مجهوداً كبيراً لمنع نفسي من إلقاء زجاجة صوب شاشة التلفزيون.
إلا أن الوضع يزداد سوءاً لدى مشاهدة الحلقات من داخل موسكو، فبالنسبة إلى الطبقة المثقفة من أبناء العاصمة الروسية والبيروقراطيين أصحاب الأفكار التقدمية والنشطاء المناهضين لبوتين، فإن «النائمون» ليس مجرد مسلسل تدور أحداثه حول الجاسوسية على غرار الكثير من الأعمال الفنية الأميركية المستوحاة من شخصية شيرلوك هولمز الشهيرة، لكن مع تبادل الأدوار بين الأميركيين والروس، بحيث يلعب الروس دور الأخيار بينما الأميركيون هم الأشرار. في الواقع، هذا المسلسل يشكّل لهذه الفئات تهديداً صريحاً، خصوصاً أن القناة الأولى التي تذيع المسلسل في وقت الذروة، قناة رسمية وتعتبر اللسان الناطق باسم الدولة.
والملاحظ أنه في الوقت الذي تبث فيه القناة بعض أقوى الدعايات المؤيدة للكرملين عبر برامجها الإخبارية، فإنها عمدت إلى تجنب توجيه سهام النقد إلى الليبراليين عبر برامجها الأخرى.
في الواقع، لقد جرى النظر إلى «النائمون» باعتباره بياناً سياسياً يطرح رد فعل غاضباً وساخراً في مواجهة المواقع الإلكترونية ذات الميول الغربية. من ناحيته، كتب أوليغ سولكين عبر موقع «نيو تايمز» المناهض للكرملين، يقول: «(النائمون) عبارة عن آيديولوجية مركزة، ويمكن اعتباره بمثابة العصارة الخالصة للدعايات الموالية للحكومة».
أما ناتاليا إيساكوفا، فتساءلت عبر موقع إلكتروني آخر يناصر الفكر الليبرالي يدعى «كولتا رو»: «ما الأمر الخطير بخصوص هذا المسلسل؟ ألا نعلم من نشرات الأخبار أن روسيا محاطة بالأعداء، وأن المعارضة على أتم استعداد لقتل نفسها فقط إذا كان هذا من شأنه الإضرار بدولتنا الغالية؟ حسناً، نشرات الأخبار تفتقر إلى الشحن العاطفي. أما هذا المسلسل ففرصة ثمينة لغرس الشعارات الآيديولوجية داخل وجدان المشاهدين».
بطبيعة الحال، لم ينظر المعلقون الموالون للحكومة إلى الأمر على هذا النحو. على سبيل المثال، أشارت وكالة أنباء «ريا نوفوستي» إلى أن «النائمون» قدموا إلى الطبقة الروسية الناقدة للأوضاع «بعضاً من دوائهم المر». جدير بالذكر أن المسلسل جرى إخراجه من جانب يوري بيكوف، الذي كان مقرباً إلى قلوب المشاهدين الليبراليين بفضل فيلم سابق له لعب فيه بيروقراطيون محليون فاسدون دور الأشرار. ومع ازدياد ردود الأفعال ضده حدة، اضطر إلى حذف حسابه عبر «فيسبوك» وكتب عبر شبكة التواصل الاجتماعي الروسية «فكونتاكتي» أنه ربما ينهي مسيرته بمجال الإخراج لتجنب «تضليل من يرغبون حقاً في تصديق أن ثمة إمكانية لتغيير شيء ما».
اليوم في موسكو، لم يعد من المهم ما إذا كان تهديد بيكوف بالتقاعد حقيقياً، أو إذا ما كان سيبدأ تصوير الموسم الثاني غداً. المؤكد في كل الأحوال أن الجدال السياسي أصبح يدور على نحو متزايد حول تصورات سينمائية للواقع. ومن بين القضايا الأخرى التي شغلت الرأي العام الروسي خلال الأسابيع الماضية فيلم حول علاقة عاطفية ربطت بين آخر قياصرة روسيا وراقصة باليه، والذي يحاول محافظون، بينهم مشرّع بارز، منعه من العرض بدعوى إساءته إلى الإمبراطور نيقولا الثاني. كما يدور جدال حول إعلان كيسنيا سوبشاك، نجمة تلفزيون الواقع، الأربعاء، ترشحها للرئاسة بالاعتماد على خطاب مناوئ للكرملين على نحو خفيف. الواضح أن ترشحها للرئاسة نال موافقة الكرملين، في الوقت الذي يجري فيه فرض حظر على نافالني، الذي يشكل تحدياً حقيقياً أمام بوتين، من الترشح في الانتخابات. ومع هذا، يبدو المدونون الليبراليون سعداء للغاية بالانغماس في تحليل وجهات نظر سوبشاك وأهدافها وتأثيرها المحتمل على الحملة الانتخابية.
أما النبأ الجيد فيما يخص الدراما الروسية، فهي أنها تواجه فتوراً عاماً من قبل السواد الأعظم من الروس. ويتجلى ذلك في الأرقام التي تكشف أن «النائمون» حظي بمعدلات مشاهدة واهنة لم تتجاوز نحو 13 في المائة خلال فترة الذروة -مع تراجع معدلات المشاهدة على نحو ملحوظ خارج موسكو. وتعكس حالة اللامبالاة تلك انحسار تفاعل المواطنين الروس العاديين مع الرسائل الدعائية، مهما بلغت التكلفة الباهظة لإنتاجها. واليوم، أصبحت اللامبالاة تلك الخطر الأكبر أمام بوتين، والأمل الأكبر أمام أبناء «الطابور الخامس».
*بالاتفاق مع «بلومبيرغ»