خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

السياسي السلاب النهاب

كما جادت الحرب العالمية الثانية بهذه الشخصية اللامعة، ونستون تشرشل، جادت الحرب العالمية الأولى، أو ما سمي بالحرب العظمى، بالشخصية الفذة لجورج كليمنصو الذي يطيب لي أن ألقبه بالسلاب النهاب. بيد أن سلبه ونهبه انصب على كسب كل شيء لبلده، فرنسا. يكفينا منه ما صنعه في سوريا. كان هذا هوسه منذ القرن التاسع عشر. امتاز بالروح الخطابية المطعمة بالسخرية والظرافة التي ساعدته في أصعب المواقف.
كان له لسان لاذع وبديهة حاضرة حتى بالنسبة للمقربين إليه. عندما اضطربت الأسواق المالية في فرنسا، لم يجد كليمنصو غير أن يقول: «لماذا أجد نصيبي أن يكون وزير ماليتي الوحيد في فرنسا الذي لا يعرف أي شيء عن المال»؟
الواقع أن الكثير من وزرائه كانوا من الدرجة الثالثة، وربما لأن الساسة المحترمين لم يرغبوا الدخول في خدمة هذا الرجل السليط. زاره يوماً صديقه المسيو دوبو يستشيره في ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية. وكان هذا الرجل مشهوراً بالغباء وعدم الكفاءة. تحدث في ذلك مع صاحبه كليمنصو متشكياً فقال: «يتهمني الناس بأنني بليد. أنا لا أجد نفسي أبلد من أي شخص آخر». فأجابه كليمنصو بصيغة السؤال: «أي شخص آخر»؟
إذا كان المسيو دوبو قد اشتهر بالبلادة، فقد اشتهر كليمنصو بالدهاء والمكر. لا عجب أن لقبوه بالثعلب. جرت مناوشة في الجمعية الوطنية بينه وبين جان جوريه بعد أن استرسل هذا في خطابه بانتقاد الحكومة، فقاطعه الثعلب الفرنسي قائلاً: «وعلى أي حال فأنت لست بالرب»! رد عليه جوريه قائلاً: «وأنت لست بإبليس». جاءه الرد فوراً: «وكيف تعرف ذلك»؟!
تفوه كليمنصو بكلمات بليغة أصبحت خالدة في الأدب السياسي العالمي كقوله: «الحرب شيء خطير. لهذا لا يمكن تركها بيد الجنرالات».
وقال مثل ذلك عن النقاط الأربع عشرة للرئيس الأميركي ولسون التي تضمنت حق تقرير المصير. لقد أطلق المؤرخون على كليمنصو في هذا الصدد لقب «خبيث فرساي» بسبب إصراره على الحصول لفرنسا على شتى الغنائم والمكاسب، بغض النظر عن النتائج وحقوق تقرير المصير. كان سياسياً من الطراز التقليدي تماماً ينظر لشؤون العالم كساحة للنهب والسلب. ولهذا اصطدمت سياسته اصطداماً حدياً مع مبادئ الرئيس ولسون، الرجل الأميركي المثالي النزعة.
مع ذلك، انتقده الفرنسيون في الجمعية الوطنية على ما حصل لبلاده من القليل في معاهدة فرساي من حلفائه. فقال: «حسناً، هذا أقصى ما استطعت الحصول عليه لفرنسا وأنا جالس بين المستر ولسون والمستر لويد جورج، السياسيين اللذين تبنيا أفكار الأربع عشرة نقطة وحق الشعوب لتقرير المصير». لقبوا جورج كليمنصو بشتى الألقاب، ولكنني أجد خير لقب له بربيب القرن التاسع عشر. عيبه أنه عاش في القرن العشرين.