آيلين كوجامان
كاتبة معلقة ومحللة في التلفزيون التركي
TT

لماذا ذهب بايدن إلى قبرص؟

هذا السؤال جرى تداوله كثيرا هذا الأسبوع. لماذا رحبت قبرص - التي لم يجر الالتفات لها منذ زيارة الرئيس ليندون جونسون عام 1962 - فجأة بكبار المسؤولين الأميركيين مجددا؟
عندما يتعلق الأمر بقبرص، يتعين علينا مناقشة أمور كثيرة، ولذا يوجد أكثر من إجابة عن هذا السؤال.
تحتل قبرص أهمية كبيرة بالنسبة لمحللي الشؤون الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط، وروسيا، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة. وتجدر الإشارة إلى أن قبرص الجنوبية تعد أحد أعضاء الاتحاد الأوروبي وتربطها علاقات وثيقة مع روسيا، وجرى حديثا اكتشاف احتياطات للغاز الطبيعي بها، بينما تخضع قبرص الشمالية لوصاية تركيا، وهي إحدى الدول المجاورة لسوريا وواحدة من حلفاء الولايات المتحدة، وتعد ضمن الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، كما أنها الممر الذي يجري الحصول من خلاله على الغاز الطبيعي من إسرائيل وقبرص. ولذا، فإن التوصل لحل بشأن المسألة القبرصية يشغل اهتمام كل من روسيا، وسوريا، وإسرائيل، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأميركية. دعونا نتوسع في هذا الموضوع:
ذكر بايدن، وهو في طريقه إلى قبرص أنه «لم يأت باقتراح جديد لتسوية الأزمة»، فقد كان هناك بالفعل فرصة لتسوية الأزمة القبرصية بين طرفي النزاع منذ شهر فبراير (شباط). وكان هدف بايدن إرسال رسالة تحث على «كسر حالة الجمود» بشأن المحادثات، التي كانت قد وصلت إلى طريق مسدود. بالطبع، يلعب ملف الطاقة دورا مهما في هذا الاهتمام المفاجئ بالأزمة القبرصية، ولعل من يدلل على ذلك المسؤولون التابعون لوزارة الطاقة الأميركية الذين كانوا برفقة بايدن في زيارته؛ إذ إن الاتحاد الأوروبي الذي لديه قدر ضئيل من الطاقة، يبحث عن مصادر أخرى يحصل من خلالها على الطاقة غير روسيا، نظرا للأزمة التي تشهدها أوكرانيا. ولذا، هناك حاجة للوصول إلى حل سريع في منطقة البحر المتوسط.
بيد أن الهدف الحقيقي لا يكمن في الغاز الطبيعي المحدود للغاية الموجود في قبرص الجنوبية، ولكنه يكمن في الحاجة لتمهيد الطريق لإقامة ممر في المياه المفتوحة قبالة إسرائيل ولبنان، للحصول على وفرة من الغاز الطبيعي، حيث إن تركيا تمثل السبيل الوحيدة لإقامة ممر يمكن أن يمتد ويصل إلى أوروبا، وذلك عن طريق قبرص.
ونظرا لاحتياطات الغاز الطبيعي التي اكتشفتها الولايات المتحدة حديثا داخل أراضيها، فضلا عن الغاز الصخري الذي تنتجه، فقد ضمنت الولايات المتحدة بذلك الإيفاء بمتطلباتها من الطاقة لفترة من الزمن، ولكن إن لم يكن الغرض الحقيقي يدور حول ملف الطاقة، فلماذا أسهمت الولايات المتحدة في حل الأزمة القبرصية؟
اقترب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، وتوجه اتهامات للرئيس أوباما الذي يتبنى سياسة معتدلة في منطقة الشرق الأوسط بفشله في قضايا عدة، حيث ينسب هؤلاء الذين فشلوا في استيعاب التوازنات المستمرة والمتغيرة في منطقة الشرق الأوسط، ولم يكن لديهم قدر كافٍ من المعرفة بشأن المنطقة التي عصفت بها اضطرابات الربيع العربي - الفشل في تسوية القضايا المتعلقة بالصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وسوريا، وأوكرانيا، وأخيرا روسيا، إلى الرئيس أوباما.
ومما لا شك فيه، أن النجاح في تسوية الأزمة القبرصية قد يؤدي إلى تغيير التوازنات السائدة في فترة ما قبل الانتخابات المقرر انعقادها، ومن شأنه أيضا أن يكون له وقع إيجابي على اللوبي اليوناني في الولايات المتحدة، وكذلك الاتحاد الأوروبي.
وهناك سبب رئيس آخر وراء هذا الاهتمام بالأزمة القبرصية يتمثل في الأزمة مع روسيا، إذ إن الجهود الروسية المبذولة لتوسيع الاتحاد الأوراسي والخطوات المتخذة من جانبها في شبه جزيرة القرم، تثير القلق لدى الولايات المتحدة. ولا يتعين أن نغفل حقيقة أن سوريا تخضع تماما للسيطرة الروسية، وبالتالي يمكن لروسيا أن تعمل على توسيع وجودها في منطقة البحر الأبيض المتوسط من خلال سوريا. كما تحتل أيضا فكرة الشراكة عبر الأطلسي - من خلال تحقيق الاتحاد بين كتلتي اتحاد التجارة الحرة لأميركا الشمالية (النافتا) والاتحاد الأوروبي - أهمية كبيرة لدى الولايات المتحدة في هذه المرحلة. ففي الواقع، تريد الولايات المتحدة أن تنضم تركيا لهذا الاتحاد لكي تضمن هيمنتها على المنطقة، ولكن دعونا نتذكر، أن تركيا لم تكن بمثابة عضو حسن النية، حيث تشكل الأزمة القبرصية أحد الأسباب الرئيسة التي تعرقل الطريق أمام انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، لذا فإن الولايات المتحدة بحاجة لتسوية هذه الأزمة بشكل سريع.
هذا بالنسبة للموقف الأميركي، ولكن بالطبع هناك أبعاد أخرى للمسألة القبرصية.
بينما تعمل الولايات المتحدة على تحقيق أهدافها، هل يمكن أن ننظر إلى قرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بفرض غرامة مالية على تركيا قيمتها 90 مليون يورو إثر العمليات التركية في قبرص عام 1974 باعتباره يمثل ضربة لمحادثات السلام؟ وماذا عن عشرات القرى التركية التي تعرضت للهجوم على يد منظمة إيوكا (EOKA) في الفترة ما بين 1963 و1974، بالإضافة إلى ذبح مئات الأشخاص هناك؟ وماذا عن حادث عيد الميلاد الدموي، عندما ذبحت زوجة ميجور نهاد إيلهان، وكذلك أطفاله الثلاثة في حوض الاستحمام؟ تجدر الإشارة إلى أن هذا الحوض الدموي ما زال موجودا في ذلك البيت الذي يُعرض الآن على أنه «متحف البربرية». وفي الحقيقة، يكمن الإهمال والتقصير التركي في عدم التقدم بطلب إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بشأن هذه الجريمة ضد الإنسانية، ولذا يتعين على تركيا أن تدفع الثمن الآن.
وأود أن أُذكر القراء بأن الجزء التركي من قبرص كان يناضل من أجل البقاء منذ عام 1963. ولم يقدم الجزء التركي من قبرص ولا تركيا ذاتها أدنى التنازلات بشأن هذا الأمر لمدة 51 عاما، ورغم ما تمثله مسألة الانضمام للاتحاد الأوروبي من أهمية بالنسبة لتركيا، فإن هذا الأمر لم يجعل تركيا تعدل عن إصرارها بشأن قبرص. بالتأكيد، سيكون من الأفضل العمل على نسيان ذكريات الماضي الأليمة، وإقامة اتحاد بروح من الأخوة والصداقة والتحالف، وتحقيق الاستقرار في المنطقة.. فهذا ما كنّا نتوق إلى تحقيقه على مر السنين. ولكن إذا كانت الولايات المتحدة ترغب بالفعل في تسوية أزمة الجزيرة القبرصية، يتعين عليها أن تولي أهمية إلى المودة وليس المنافع والمصالح، كما يتعين عليها العمل على فهم الجانب التركي، الذي يناضل لعدة سنوات من أجل وجوده. يتعين على الولايات المتحدة أن تعطي الأولوية لذلك من أجل التوصل لحل مجدٍ وطويل المدى بشأن الجزيرة القبرصية، وكذلك بالنسبة لتركيا ومنطقة البحر المتوسط، ومن أجل تمديد خطوط أنابيب الطاقة، التي تشتد الحاجة إليها، إلى الاتحاد الأوروبي.