خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

نابليون... ما له وما عليه

لا شك في أن شخصية نابليون بونابرت قد أثارت كثيراً من الخلافات والمناقشات... هناك من يعجب به إلى حد العبادة، وهناك من يشعرون بالقرف والاستياء منه؛ بل يرون أن معظم ما تعانيه أوروبا يعود للمخططات التي وضعها؛ فهو الذي وضع أسس الديكتاتورية العسكرية التي احتذاها كثير من الحكام، وجعل الانقلابات العسكرية شيئاً مقبولاً. ويرى البعض أنه هو الذي وضع أسس النظام البوليسي والمخابراتي.
ولكن لا بد من أن نعترف له بأنه كان من أثقف الحكام المستبدين وأحرصهم على الفنون؛ يكفيه أنه وضع أسس المجد الفني لباريس وحولها إلى مزار وعاصمة للفن والفنانين. كان أيضاً مذواقاً للموسيقى، مما قربه إلى بتهوفن وقربه إليه... كان بينهما إعجاب متبادل مع اختلاف المنحى والمفاهيم. أحب نابليون في الموسيقار الألماني موسيقاه وروح التجديد في أعماله. وأحب بتهوفن في الإمبراطور الفرنسي؛ «ابن الثورة الفرنسية» كما سموه، ومنه جاءت روح التجديد السياسي في أوروبا، وحمل مبادئ الثورة الفرنسية في عموم القارة الأوروبية.
كجزء من هذا الإعجاب، ألّف بتهوفن السيمفونية الثالثة تمجيداً لنابليون البطل، وتخليداً لدوره بصفته قائداً ثورياً عندما كان يشغل منصب القنصل الأول للدولة. وسمى السيمفونية باسمه «بونابرت». وبينما كان الموسيقار على وشك نشر عمله الجديد وتقديمه للجمهور، جاء تلميذه «ريز» وأخبره بأن نابليون نصب نفسه إمبراطوراً على فرنسا، فاستشاط غضباً وقال: «هكذا! إذن فلم يكن سوى واحد من الآخرين. سيبدأ الآن بسحق كل حقوق الإنسان ليرضي غروره وليرتفع فوق الجميع ويصبح واحداً من الطغاة».
وفي سورة الغضب، تناول مخطوطة السيمفونية فمزق صفحتها الأولى التي كانت تحمل اسم «بونابرت»، وكتب صفحة جديدة وأعطاها اسماً جديداً هو الاسم الذي تعرف به الآن: «البطولة (أرويكا)».
مرت الأيام والشهور، وكان بتهوفن في زيارة صديقه الشاعر والأديب الشهير غوته، وخرجا في مشوار في الغابة السوداء، وإذا بهما يصادفان الإمبراطور في ممر ضيق لا يتسع لغير شخص واحد. أسرع غوته إلى تنبيه زميله بتهوفن بقدوم نابليون، وتنحى عن الطريق ليسمح للإمبراطور بالمرور. وعندما وصل أمامه انحنى له احتراماً. أما بتهوفن، فقد تجاهل صديقه وتجاهل نابليون أيضاً، واستمر سائراً في الممر الضيق حتى اقترب من الإمبراطور. وعندئذ تنحى الإمبراطور من الممر ليسمح لبتهوفن بالمرور. وعندما مرّ أمامه شامخ الرأس غير آبه بوجوده، انحنى الإمبراطور له وبقي هكذا حتى اجتازه الموسيقار وتركه وراءه غير آبه به.
أعترف بأنني ما وجدت في حياتي حكاية تُجِلّ الفن والفنانين كهذه الحكاية، حتى لأكاد أتناسى بها كل سوءات نابليون بونابرت وديكتاتوريته.