عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

السعودية وروسيا... تعزيز الشراكة وأولوية المصالح

كما يليق بملكٍ مهابٍ، استقبلت روسيا الملك سلمان بن عبد العزيز بكل ما تستحقه المملكة العربية السعودية من تقديرٍ، وما تحظى به من مكانة وما تمثله من قيمة على كافة الصعد.
مع استحضار اعتراف الدولتين ببعضهما تاريخياً فإن هذه الزيارة للملك سلمان تعتبر تاريخية بحقٍ، ذلك أنها أول زيارة لملك سعودي للعاصمة الروسية موسكو وهي تأتي في زمن الحزم وبناء المستقبل وتجديد الدولة السعودية لنفسها داخلياً وخارجياً، وقد تمّ التمهيد لها بزياراتٍ متعددة للأمير محمد بن سلمان ولي العهد لروسيا، وبعد دراساتٍ وتنسيقٍ عالي المستوى لنقل العلاقات بين البلدين إلى مستويات أعلى مع لقاءات متكررة بين المسؤولين في البلدين في العديد من الملفات.
تأتي هذه الزيارة الملكية تتويجاً لكل الجهود السابقة، وتم التوقيع خلالها على عددٍ مهمٍ من الاتفاقيات والتفاهمات، وخلق أطرٍ أوسع للتعاون المثمر بين البلدين بما يصب في مصالحهما المشتركة، وبما يتفق مع طموحات القيادتين لمستقبل أفضل للدولتين المؤثرتين على المستوى الدولي.
أكد العاهل السعودي على مواقف السعودية الواضحة تجاه الملفات الكبرى في المنطقة، إن تجاه إيران وأدوارها في دعم استقرار الفوضى في الدول العربية، وإن تجاه الملف السوري وتعقيداته، وإن تجاه ملف محاربة الإرهاب ورؤية السعودية المتكاملة للقضاء عليه بكافة السبل.
العلاقات بين الدول لا تقوم على التوافق التامّ، بل على أساس المصالح المشتركة وتنميتها والسيطرة بعقلانية وواقعية على الاختلافات، وهو ما تسعى إليه السعودية وروسيا، فمعلومٌ أن الاختلاف بين الدولتين كبيرٌ تجاه الدور الإيراني وتجاه الملف السوري، ولكن هذا لا يمكن أن يلغي إمكانية تطوير العلاقات في العديد من الملفات الأخرى وتعزيز بنية أقوى للمصالح المشتركة.
المجالات واسعة للتعاون بين البلدين ولنقل العلاقات إلى آفاقٍ أرحب كما عبر الملك سلمان، ولدى السعودية المتجددة أدوارٌ إقليمية مهمة في الدفاع عن مصالحها ومصالح الدول العربية والشعوب العربية، وهي في عصر الحزم والعزم أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك قدرتها الصلبة على فرض هيبتها، وإيقاف العبث في المنطقة وما «عاصفة الحزم» و«إعادة الأمل» وقيادة «التحالف العربي» لدعم الشرعية في اليمن، إلا مثالٌ واحدٌ على الطريق يستوعبه العالم ويعترف به، وهو ما صرّح به الملك سلمان لمضيفيه في موسكو.
لقاء الملك سلمان مع الرئيس فلاديمير بوتين كان ناجحاً ودافعاً لمزيدٍ من التعاون ومثله لقاؤه مع رئيس الوزراء ديمتري ميدفيديف، وما اكتنف الزيارة الملكية من معاهداتٍ واتفاقياتٍ ولقاءاتٍ بين كبار المسؤولين من الجانبين والفعاليات الثقافية المصاحبة واجتماعات رجال الأعمال، كلها تشير إلى رغبة جادة لتعزيز العلاقات ونقلها إلى مستوياتٍ جديدة.
السعودية لديها رؤية واضحة ومعلنة للمستقبل هي رؤية 2030 وفيها العديد من المجالات والفرص التي يمكن استثمارها لتوطيد العلاقات وبناء الشراكات بين الجانبين، وقد جاء في الكلمة الملكية في لقاء رئيس الوزراء الروسي: «تعيش المملكة العربية السعودية مرحلة تاريخية ومفصلية من التطور الشامل، وقد ترجمت هذه المرحلة في رؤيتها 2030. ونتطلع إلى مشاركة دولتكم الصديقة في التعاون لتنفيذ برامج هذه الرؤية بما يخدم مصالحنا المشتركة».
النفط هو عصب الحضارة الحديثة بأسرها وكل الاستثمارات في مجالات طاقة بديلة لم تزل في بداياتها، ولم تصل بعد لتهديد مكانة النفط العالمية، والسعودية وروسيا هما الدولتان القائدتان في ضبط أسعاره وضمان العدالة فيها بين المنتجين والمستهلكين، السعودية بقيادتها لمنظمة أوبك وروسيا بقيادتها للدول خارج المنظمة، وكلّما زاد التنسيق بين الدولتين، تحسنت سوق النفط وتمت السيطرة على الأسعار العادلة، وهو تنسيقٌ عالٍ ظهرت نتائجه في السنتين الأخيرتين، والتي كان آخرها الاتفاقية الأخيرة على خفض الإنتاج.
جزء من رؤية السعودية 2030 تطوير الصناعات التعدينية، وهو ما تمّ تأكيده في هذه الزيارة الملكية بين الجانبين السعودي والروسي، حيث تطمح السعودية أن تكون صناعة التعدين هي الرافد الثالث للاقتصاد السعودي بعد النفط والبتروكيماويات، كما صرح وزير الطاقة السعودية خالد الفالح بعد لقائه مع نظيره الروسي.
السعودية هي القوة الإقليمية الأكثر تأثيراً في الدفاع عن حقوق الدول العربية وشعوبها، وقد أثبتت ذلك بالقول والفعل، في كافة الملفات الكبرى في المنطقة وأزماتها، كما أنها بلاد الحرمين ومهبط الوحي وقبلة المسلمين، وفي روسيا ما يقارب الثلاثين مليون مسلم يتوجهون لمكة المكرمة في صلاتهم وحجهم وعمرتهم، ويلقون كل العناية كغيرهم من المسلمين، وهذه القوة السياسية الكبرى تتم ترجمتها عملياً في سياسات السعودية وعلاقاتها الدولية.
الدولتان الصديقتان هما عضوان ثابتان في مجموعة العشرين، وكل تعزيز للعلاقات بينهما يعد دفعاً لمكانتهما أمام اقتصادات العالم الكبرى، وكل المؤشرات القادمة من موسكو تؤكد أن لهذه الزيارة الملكية ما بعدها، بمعنى أن السعودية مع احتفاظها بحلفائها التقليديين دولياً في أميركا وأوروبا منفتحة تماماً على بناء علاقاتٍ راسخة مع العديد من الدول الكبرى حول العالم، ومن قبل تمّ تعزيز العلاقات مع الصين ومع اليابان وغيرهما.
أحد أهداف رؤية السعودية 2030 هو تطوير القوات المسلحة السعودية الذراع الداعمة لسياساتها، ومن ذلك تطوير التصنيع العسكري بمحتوى محلي وهو ما تم تأكيده خلال الزيارة الملكية، من إمكانية حصول السعودية على أنظمة صاروخية روسية بالغة التميز والتأثير، من مثل منظومة (إس 400) مع مذكرة تفاهمٍ لزيادة توطين الصناعات العسكرية.
الدولة السعودية تحترم حلفاءها وتتعاون معهم في كافة المجالات، ولكنها على الدوام تتواصل مع جميع دول العالم والكبرى منها تحديداً، في كل ما يخدم مصالحها وإمكانياتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، وهو ما يجري اليوم على قدمٍ وساقٍ ضمن مشاريع السعودية التطويرية الشاملة في كافة المجالات، وتحديداً في المجال العسكري، فإن السعودية لم تتوانَ يوماً عن الحصول على أحدث المنتجات العسكرية، وهي سياسة ثابتة للسعودية منذ «الصواريخ الصينية» إلى منظومة (إس 400) الروسية.
أخيراً، فإن أكثر الدول شعوراً بالإحباط من هذه الزيارة الملكية التاريخية هي إيران ونظام الملالي هناك، لأنها تعلم أن ارتباط السعودية ودول الخليج والدول العربية بمصالح كبيرة مع روسيا سيكون له تأثيرٌ كبيرٌ في علاقاتها بروسيا، وسيشعر حلفاؤها الإقليميون من أنظمة سياسية وجماعاتٍ أصولية وتنظيماتٍ إرهابية وميليشياتٍ مسلحة بنفس الإحباط، ذلك أن سعودية قوية تعني التصدي لكل المشروع الطائفي والإرهابي الذي ترعاه إيران في المنطقة والعالم.

[email protected]