فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

الدعوة إلى النهضة المعرفية والتجاوب معها

لم يكن للإنسان أن يعيش حالة الرفاه التي يتمتع بها الآن لولا ثمار العلوم وتطورها وفورانها؛ إذ ساهم التطوّر المعرفي بتبديد كثير من مخاوف الإنسان في هذا العالم، ونزع السحر عن محيطه، ومكّنه من التحكم في مفاصل الحياة، وتغلّب بشكلٍ كامل على كل الأساطير والخرافات، مما جعله سيّداً لعالمه، ومسيطراً عليه، كل ذلك بسبب العلم.
وفي كلمة الملك سلمان التي ألقاها نيابة عنه وزير الطاقة والثروة المعدنية خالد الفالح، قال فيها: «إن العالم الإسلامي اليوم بحاجة إلى نهضة معرفية أكثر من أي وقتٍ مضى، في ظلّ التحديات الكبيرة التي يواجهها». والحقّ أن هذا التأكيد له ضرورته، ذلك أن الاهتمام العلمي والتطوّر المعرفي يسهمان في ترسيخ نسبية الحقيقة التي تؤدي إلى السلوك القويم مع الآخر، مما يخفف من غلواء الكراهية والعنصرية والطائفية والأحقاد الكارثية، وهذا المسار الذي سارت عليه الرحلة الأوروبية من التيه والاقتتال والدمار إلى حالٍ من التعايش والتفاهم.
والتطوّر العلمي بني متراكماً طبقاً لتجدد معايير وشروط تحقق المعرفة منذ العصر اليوناني وإلى اليوم، كما يشرح ذلك صاحب «حكمة الغرب» و«أثر العلم في المجتمع» الفيلسوف برتراند راسل، فهو يذكّر بأن «أرسطو يؤكد أن عدد أسنان المرأة أقل من عدد أسنان الرجل، ما يبيّن رغم أنه تزوج مرتين أنه لم يكلف نفسه عناء النظر في فم زوجتيه ليبرهن مقولته. كما يقول: إن الأطفال يكونون أكثر صحة إن كان بدء حمل المرأة وقت تكون الريح الشمالية، ما يدفع المرء إلى الاعتقاد بأن كلتا زوجتيه كان عليهما استطلاع اتجاه الريح كل مساء قبل أن تأويا إلى الفراش، كما يفيد بأن الشخص الذي يعضّه كلب مسعور لن يصاب بالسعار؛ لكن في الحقيقة أي حيوانٍ يعضه ذلك الكلب سيصاب بالسعار، كما أن عضة أحد أنواع الفئران آكلة الذباب خطرة للحصان، وبخاصة إذا كانت الفأرة حبلى، وأن الفيلة التي تعاني من الأرق يمكن شفاؤها بدلك أكتافها بالملح وزيت الزيتون والماء الدافئ».
بمعنى آخر، إن نزع السحر عن العالم أتى من خلال تطور العلوم والمعارف عبر العصور، ومن خلال التجارب والمعايير والاشتراطات المتطورة، وذلك انطلاقاً من تطوّر النظريات الموصلة إلى الحقائق.
وبالعودة لراسل مرة أخرى، فقد «تآكلت الخرافات مثل المعجزات، والأرواح الشريرة، ونذر الشؤم» إلا أن أهم ما تم التوصل إليه بعد جهود العلماء في القرن السابع عشر، تكوّن نظرة علمية ستسود المشهد في القرن الثامن عشر، وكان لها أهميتها في تكوين «النظرة العلمية» ويلخصها بالآتي:
1- إن بيانات الحقائق يجب أن تبنى على الملاحظة وليس على استشهادٍ غير مسند.
2- أن العالم المادي يتمتع بنظامٍ ذاتي الفعل وذاتي الديمومة، تخضع كافة التغيرات فيه إلى قوانين الطبيعة.
3- أن الأرض ليست مركز الكون، ومن المحتمل أن الإنسان ليس غاية الكون، وأن الغائية ذاتها موضوع غير ذي نفعٍ علمي، و: «تلك كانت (النظرة الميكانيكية) التي حاربها رجال الكنيسة».
المهمة الرئيسية للعلوم، إضافة إلى إسهامها في رفع مستوى تمتع الإنسان بدنياه، أن تطورها أعطى العالم قدرة على تكوين رؤى مختلفة بكل المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وآية ذلك أن نسبية الحق الذي يمتلكه الإنسان جاءت من خلال شرر العلم، كما أن العلم لم يكتفِ بجعل النسبية جزءاً من شكل الحقيقة؛ بل إن الأخطاء العلمية والمعرفية عبر التاريخ شريكة في صقل الحقيقة، كما هو تعبير باشلار: «إن تاريخ العلم هو تاريخ أخطاء».
كل ذلك الاستيعاب لتناقضات حركة الحقيقة، والغليان الذي صاحب إنتاج معايير المعرفة وشروطها البرهانية أو الاستقرائية أو التجريبية أو حتى «التكذيبية»، كما هو المعيار العلمي لكارل بوبر، كل ذلك أسهم في إنضاج العلوم، وتعزيز أثرها الشامل في المجتمعات المحظوظة بعقول عباقرتها.
إن دعوة خادم الحرمين الشريفين لنهضة معرفية، جاءت في وقتٍ تعاني فيه الشعوب الإسلامية من ضعف في التعليم، ومن عنف في ممارسة نتائج الحقيقة، يثمر غالباً اقتتالاً وصراعاً عرقياً وإثنياً وطائفياً، وتلك النهضة تحتاج إلى تجاوب دول العرب والمسلمين المحتاجة دائماً وأبداً إلى نهضة معرفية دعا إليها رموز التنوير والإصلاح الديني منذ قرون، غير أن الحالة لا تزداد إلا سوءاً.