أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

تحديات التنوير

تعيش المملكة العربية السعودية تحولات هائلة، معظمها جذرية في الجانب الاجتماعي والاقتصادي، هذه التغيرات جعلت البعض يطلق على المملكة؛ السعودية الجديدة، ليس فقط فيما يخص تمكين المرأة بالسماح لها بقيادة السيارة؛ الذي يعد أحد أهم القرارات منذ تأسيس المملكة، ولكنها أيضاً تغيرات تخص عامة الناس في الترفيه والتعليم والثقافة.
ولأن السعودية لها مرجع ديني متمثل في مجلس استشاري، وهو هيئة كبار العلماء، فقد دأبت القيادة على أخذ رأيه قبل اتخاذ قرارات مهمة فيما يتعلق بالمرأة والترفيه، وكل ما شهدنا حصوله خلال الأشهر الماضية. هذه الهيئة يمثلها رجال علم من أهل التخصص الشرعي والفقهاء، ومن يصل إلى هذه المرحلة الرفيعة من العلم الشرعي غالباً ما يكون ذا نظرة واسعة، وفهم لمقاصد الشريعة التي ترجح مصالح الناس وتأخذ بالاجتهاد والقياس لصالحهم ما استطاعوا. لذلك ترافق كل القرارات الحديثة عبارة «وفق الضوابط الشرعية» التي يحددها كبار العلماء. لكن المسألة الإشكالية فيما مضى لم تكن من كبار العلماء، بل من المجتهدين من ذوي الميول المتشددة، بعضهم متشدد ويحظى بشعبية كبيرة، وبعضهم له مصالح خاصة للحفاظ على جماهيريته الواسعة في أوساط الشباب الذين عاصروا فترة الانغلاق واعتقدوا أن هذا هو الصحيح، فكان التشدد سبيل هذه الرموز للحفاظ على مكتسباتهم. لم يكن من السهولة تجاوز المجتمع لتأثير هؤلاء، ولكن الناس ضاقت بهم الأرض، ولم يعد الكبت مقبولاً، خصوصاً بعد أن أصبحوا متعلمين وقادرين على قراءة الشريعة الإسلامية قراءة موضوعية تفند كل الاجتهادات المتشددة.
عاشت المملكة فترة انغلاق طويلة منذ قيام ثورة الخميني بداية الثمانينات الماضية، التي تلتها واقعة احتلال الحرم المكي من قبل جماعة متشددة. منذ ذلك الحين انغلقت السعودية على نفسها، ومرت عقود طويلة بلا تغيير يذكر على مستوى المجتمع والثقافة والفنون والتعليم وبالطبع المرأة التي كانت أكبر ضحايا هذا الانغلاق.
كانت باكورة الانفتاح من خلال برنامج الملك عبد الله، رحمه الله، للابتعاث الخارجي، منه انطلق الشباب والشابات إلى مساحات أرحب وثقافات جديدة في أميركا وأوروبا وأستراليا، وعاد منهم الآلاف مختلفين متأثرين ومؤثرين. تلا ذلك قرار مجلس الوزراء في وقتها بتوسيع مجالات عمل المرأة والبدء في دخولها قطاع التجزئة. لكن نقطة البداية هذه كانت مهددة بالزوال، أو لنقل إنها كانت عرضة للتوقف عند هذا الحد، لولا أن تعهدتها عناية الله بقرارات شجاعة من الملك سلمان، وولي العهد محمد بن سلمان الأمير الشجاع الطموح. القيادة السعودية استشعرت وجود ميل لدى السعوديين، خصوصاً الجيل الجديد، نحو الانفتاح، وذائقة جديدة تجاه الحياة، وهذا الاستشعار المهم جاء متزامناً مع تبني الدولة «رؤية 2030» التي ارتكزت على أهمية التحول الاقتصادي والاجتماعي لنهضة المملكة وقوتها في المستقبل وأهمية إيمان الشباب بصفتهم مورداً بشرياً تعتمد عليه الرؤية. فاجتمعت الإرادة الشعبية مع الإرادة السياسية الجريئة في سن تنظيمات وإصدار قوانين تواكب المرحلة، وتفتح الأبواب الموصدة بخطوات مدروسة ومنتظمة في جميع الاتجاهات. وقد يذكر من هم في جيلي أن ذكرى اليوم الوطني السعودي كانت تمر علينا في المدارس دون أن نتعرف عليها أو نتذكرها، ولا تتم الإشارة إليها من إدارة المدرسة، وتمر الذكرى مرور الكرام حتى على الإعلام السعودي! خطأ كبير في حق الوطن، وفي حق من أسسه ووحده وبناه، وخطأ في حق مبدأ المواطنة.
هذا العام كانت الاحتفالات غير مسبوقة، خرج فيها الصغار والكبار في المواقع الاحتفالية، منها مواقع أثرية تاريخية، ومنها الأسواق والملاعب، كلها اكتظت بالمحتفين أطفالاً وشباباً وشيوخاً، احتفلوا واستمعوا ورددوا الأغنيات الوطنية، ورفعوا أعلام الدولة وصور قادتها. ما الذي كان ينقص الناس حتى يعبروا عن محبتهم في احتفالية سنوية سوى أن الفرصة لم تكن متاحة لهم، سواء من ناحية خوفهم أن في ذلك مخالفة دينية بسبب ما تركه المتشددون من شكوك في نفوسهم، أو بسبب صمت الدولة. الأهازيج والصيحات والأفراح التي دامت ثلاث ليال كانت مناسبة أيضاً للتعبير عن رغبتهم في الاحتفال والترفيه وحاجتهم لهذه الأجواء التي تلطف متاعب الحياة اليومية.
إن التنوير الناجح يتطلب حزماً في تطبيقه، وحماية من تيار الظلام.