خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

ويل من عداوات أهل الفن وصداقاتهم!

من تجاربي مع الفنانين والأدباء أنني وجدتهم إما أصدقاء مدى الحياة أو أعداء مدى الحياة. كان ممن عاشوا وماتوا أعداء ماتيس وبيكاسو. وفي العراق كان الرصافي والزهاوي ممن عاشوا في خصومة مستمرة. لم يترك أحد منهما فرصة دون أن ينال من الآخر. سألوا الزهاوي عن رأيه في أحمد شوقي فقال: شنو هذا شوقي؟ تلميذي الرصافي ينظم شعراً أحسن منه! وهكذا بحجرة واحدة أصاب عصفورين من أعدائه.
العداوات بين الشعراء معروفة. ولكنني وجدت العلاقات بين الموسيقيين أكثر تهذيباً. منها ما سمعته عن عازف العود العراقي ألبير حنا والعازف الآخر اليهودي داود سلمان. كانا تلميذين يدرسان العود في معهد الفنون الجميلة. ونشأت بينهما صداقة وطيدة. بيد أن صروف الدهر تدخلت وفرقت بين الأحباب. فعلى هامش المشكلة الفلسطينية، اضطر الكثير من اليهود للهجرة لإسرائيل وكان منهم داود سلمان. انقطعت العلاقة بين هذين الموسيقيين.
مرت الأيام والأعوام وترك ألبير حنا أيضاً العراق وهاجر لبريطانيا حيث تزوج وسكن في لندن. وفيها التقى هذا الموسيقي برجل من إسرائيل. جرى الكلام بينهما فقال له ألبير: لدي صديق حميم كان معي في العراق وهاجر لإسرائيل، كم أتمنى أن أسمع أخباره. قال له الرجل: من هو؟ أعطني اسمه وأنا أستفسر وأتحرى في الموضوع. فاستسخف ألبير الفكرة، فمن أين لأحد أن يعثر على رجل بين ستة ملايين شخص من دون عنوان. قال له الرجل «ولا يهمك. كل شي يصير بالحياة. أعطني اسمه». ضحك ألبير على الفكرة ولكنه أعطاه الاسم مع اسمه هو ورقم تليفونه.
ومرت أيام ورن جرس التليفون في بيت ألبير حنا. التقط السماعة. «هلو... هلو... من يتكلم؟» لم يجب أحد على السؤال. ولكنها كانت مجرد لحظات. وإذا به يسمع على التليفون عزفاً على العود. عزفاً لمقام اللامي الشهير «علامَ الدهر شتتنا وطرنا...». ذلك اللحن العراقي الخالد. سالت الدموع من عيني ألبير وقد تذكر أنه اللحن الذي كان يتمرن عليه مع صديقه اليهودي داود سلمان في أيام الخير التي مضت وفاتت. وأحس بضربات ذلك الصديق وأسلوب عزفه على العود. نعم إنه هو. هو ولا أحد غيره. صديقه اليهودي القديم. «هاي وينك انت؟! أي صدفة هذي التي جمعتنا؟».
وانطلق الصديقان الموسيقيان يتبادلان الأخبار والتاريخ. وعزم داود سلمان على زيارة صاحبه القديم وجاء معه بآلة العود القديمة وعادا لتلك الأيام الحلوة، يعزفان ويتمرنان. واحد يعزف والآخر يستمع. وتوالت الزيارات واللقاءات والمراسلات والمكالمات. حتى عاد القدر، أي نعم القدر، ليفرق بين الأصحاب والأحباب. أصيب ألبير حنا بالمرض واختطفته يد المنون. وما أن سمع داود سلمان بهذا الخبر حتى أسرع إلى لندن ليمشي وراء جنازة الفنان الفقيد. وهناك على حافة القبر أخرج العود القديم وعزف اللحن القديم يودع به صاحبه: علامَ الدهر شتتنا وطرنا...