حمد الماجد
كاتب سعودي وهو عضو مؤسس لـ«الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان السعودية». أستاذ التربية في «جامعة الإمام». عضو مجلس إدارة «مركز الملك عبد الله العالمي لحوار الأديان والثقافات». المدير العام السابق لـ«المركز الثقافي الإسلامي» في لندن. حاصل على الدكتوراه من جامعة «Hull» في بريطانيا. رئيس مجلس أمناء «مركز التراث الإسلامي البريطاني». رئيس تحرير سابق لمجلة «Islamic Quarterly» - لندن. سبق أن كتب في صحيفة «الوطن» السعودية، ومجلة «الثقافية» التي تصدر عن الملحقية الثقافية السعودية في لندن.
TT

تفكك الدول... المرض المعدي

كاتالونيا والباسك تطالبان بالانفصال عن إسبانيا، واليمن على وشك أن يتجزأ مرة أخرى لشمال وجنوب، واستقلال اسكوتلندا عن المملكة المتحدة مسألة وقت، والأكراد يريدون استقلالاً بالجملة عن تركيا وإيران وسوريا، وجنوب السودان انفصل عن شماله، وليبيا وإن بقيت جغرافيتها السياسية واحدة لكنها في الواقع العملي تجزأت إلى عدد من الكيانات تتناهشها توجهات سياسية متنافرة وأحزاب متصارعة وميليشيات متقاتلة، والعراق بدأ يجهز نفسه للتفتيت بين طوائفه المتناحرة، وسوريا ليست ببعيدة عن حال العراق حيث تتجه أقلياتها إلى الشروع في تأسيس دويلاتها خشية من غضب الأغلبية المسحوقة، وحتى الكيانات الاتحادية مثل الاتحاد الأوروبي أصابه شرخ عميق بعد خروج بريطانيا منه، والاتحاد السوفياتي ذاب بعد انفصال عدد من جمهورياته في آسيا الوسطى، وأقاليم اتحاد يوغوسلافيا تحولت إلى دول مستقلة.
والخطورة في نزعة الاستقلال والانفصال هذه، أنها مرض خطير شديد العدوى، ينتقل للأجساد السليمة فيفتك بها ويفككها ويقطعها أوصالاً، ولهذا امتقع وجه القارة الأوروبية وهي ترى النتائج المؤيدة لانفصال إقليم كاتالونيا عن الجسد الإسباني ومنحته تغطية إعلامية استثنائية ليس شفقة على إسبانيا، ولكن خوفاً من عدواها الخطيرة، خاصة فرنسا التي يفصلها عن كاتالونيا جدار جبلي اسمه جبال البرانس، بل إن خطورة انفصال أي إقليم تمس خطورته وعدواه الدولة ذاتها بالدرجة الأولى، فنجاح الكاتالونيين في الاستقلال عن إسبانيا سيشجع الأقاليم الأخرى مثل الباسك للانفصال، ونجاح اسكوتلندا في الاستقلال عن المملكة المتحدة في استفتاء قادم، ويبدو أنه متوقع، هو الآخر سيشجع ويلز ومن باب أولى آيرلندا الشمالية التي استقطعت بالقوة من الجزيرة الآيرلندية للمطالبة باستقلال مماثل.
ولهذا كان رد فعل إسبانيا تجاه الاستفتاء الكاتالوني عنيفاً يعكس حالة التوتر التي أصابت الجسد الإسباني، فرجال الأمن المدججون بالسلاح والمتشحون بالسواد صاروا يقذفون بالمشاركين في التصويت كما يقذف أحدهم علبة مشروب غازي، ولم يفرقوا بين النساء والرجال، ولا بين الشباب وكبار السن، حتى بدا المشهد وكأنه في دولة قمعية وحشية من دول العالم الثالث.
لقد كشفت دعوات الاستقلال في الدول الأوروبية الوضع الهش للدول الأوروبية وعرَّت الواقع الإثني واللغوي لعدد من الدول الأوروبية التي ظن كثير من الناس خارج القارة العجوز أن دولها وحدة متجانسة متماسكة غير قابلة للكسر، فبريطانيا التي كانت لا تغيب عن مستعمراتها الشمس صارت تقاتل لكي لا تغرب الشمس عن جزيرتها الصغيرة في أقل من ساعة، وبعد أن عممت بريطانيا لغتها في مشارق كوكبنا ومغاربه صارت ويلز، إحدى مقاطعاتها الأربع، تزاحم اللغة الإنجليزية بلغتها «الويلشية»، وهي لغة لا تنتمي لعائلة اللغات الأوروبية المعروفة كالألمانية والإسبانية والإيطالية، أي أن الإنجليزية أقرب في مفرداتها لهذه اللغات من اللغة الويلزية، وقل ذات الشيء عن اللغة الكاتالونية.
واللافت أن الدول التي تعاني من نزعات أقاليمها نحو الاستقلال، هي في الحقيقة كانت دولاً استعمارية تمددت بتبختر وخيلاء وطالت يدها الطويلة كل قارات العالم القديم والجديد، فكأنما تحولت معاناتها من مطالبات أقاليمها بالاستقلال إلى لعنة أصابتها بسبب حقبة الاستعمار البغيض.
نزعة الاستقلال إعصار عاتٍ لن يسلم من خطورته أغلب دول كوكبنا، وعلى بقية الدول التي لم تصب به أن تثبت أعمدة خيامها وتتفقد أطنابها وتشد حبال أروقتها.