سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

القلب الغائب عن نيويورك!

يبدو الرئيس الأميركي دونالد ترمب، قليل الثقة في الأمم المتحدة، وفي جدواها، رغم أنها لا تزال المنظمة الدولية الأم في العالم!
وهو لا يخفي اعتقاده في عدم جدواها، ولا يدع فرصة تمر دون أن يظهره ويؤكده، وقد فعلها مرتين؛ مرة خلال الفترة التي كان لا يزال فيها مرشحاً رئاسياً يسعى إلى كسب السباق نحو البيت الأبيض، قبل عام من الآن، ثم مرة ثانية بعد أن ربح السباق واستوى في مكتبه البيضاوي رئيساً!
في المرة الأولى كان يردد دائماً، أنه يراها أقرب إلى أن تكون نادياً للتسلية، واستهلاك الوقت، وربما تبديده، منها إلى أي شيء آخر!
والذين سمعوا منه هذه المعاني، وقت أن كان لا يزال يسابق هيلاري كلينتون على الرئاسة، توقعوا بالتأكيد أن يعود إلى الموضوع نفسه، بعد أن يفوز، وإنْ بشكل مختلف!
وهو لم يُخيب ظنهم، فعاد يتكلم عنها من جديد فعلاً، وجاء كلامه هذه المرة في أثناء حضوره اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي تنعقد في هذا الشهر من كل عام. وكان الكلام من ناحيته في نقطتين واضحتين؛ الأولى أن العائد من هذه المنظمة الأم على دول العالم، ليس على قدر الأموال التي يجري إنفاقها عليها، وعلى مكاتبها، بل أقل، بما يعني أن عليها أن تبحث لنفسها عن طريقة تكون بها أكثر جدوى، إزاء المعضلات الدولية، وإزاء قضايا كل دولة عضو فيها، والنقطة الثانية أن على كل دولة عضو، أن تتحمل حصة مناسبة في ميزانية الإنفاق على أعمال المنظمة بامتداد عواصم العالم!
وما يميز هذه النظرة أنها نظرة مادية مجردة، وبالإجمال هي نظرة صاحب أعمال، لا صاحب سياسات يرجو بسياساته أن يجعل من هذا العالم عالماً أكثر رحمة، وأقل قسوة. وهي ذاتها، لو نذكر، النظرة التي كان ترمب قد راح يتطلع بها إلى دول أوروبا التي تشارك بلاده في عضوية حلف الناتو، عندما لفت انتباه كل دولة منها إلى أن عليها أن تدفع ثمن استعداد الولايات المتحدة للدفاع عنها، ضمن الحلف، في مواجهة أي خطر!
وقتها رد عليه الألمان بما معناه أن الأمور بين الدول، خصوصاً إذا كانت دولاً حليفة في كيان واحد، لا يمكن أن تقاس بالمال، ولا أن تكون أسيرة الدفع أو البذل بهذه الطريقة! وأظن أن «الكيميا» بينه وبين المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ليست من يومها على ما يرام، وليس غريباً بالتالي أن يقال إن ميركل إذا كانت قد حققت تقدماً ملحوظاً في انتخابات البرلمان التي جرت هذا الأسبوع، فإن مرجع ذلك في جزء لا بأس به منه، إنما إلى وقفتها القوية مع ترمب منذ التقيا لأول مرة!
ولأمر ما، أحسست أنه وهو يتكلم عن الأمم المتحدة بهذا الأسلوب، كان في عقله الباطن يقارن بين مبناها الضخم الفخم، الذي يرتفع إلى 38 طابقاً في مدينة نيويورك، وبين مبنى البرج الشهير الذي يحمل اسمه ويملكه في المدينة نفسها!
فمبناه مبنى استثماري يدر عائداً بالدولار في كل طلعة نهار، ولا يمكن والحال هكذا، أن نقارن بينه وبين مبنى آخر للمنظمة الدولية الأكبر، التي قامت في الأساس لضمان الأمن وحماية السلام في العالم. لا يمكن حتى ولو كان المبنيان في مدينة واحدة، وحتى ولو كانا على ارتفاع متقارب، إذ ما أبعد الفارق بين الهدف من وراء تشييد كل مبنى منهما على حدة!
وربما يكون الخيال قد سرح به وهو يلقي كلمته داخل المبنى الأممي، قبل أيام، وراح يحسبها في دماغه بالورقة والقلم، عن العائد المادي المضمون من هذا المبنى، لو أنه تحول إلى فندق، مثلاً، أو إلى وحدات سكنية فاخرة من النوع الذي يعرفه حي مانهاتن في المدينة ذاتها! ربما... فلقد كان رجل أعمال طوال حياته، قبل أن يكون رئيساً، وإذا سرحت أفكاره على هذه الصورة، فهو معذور بمعنى من المعاني!
وليست هذه هي المرة الأولى التي تكون فيها الأمم المتحدة، محل انتقاد من مسؤول أميركي كبير، وإنْ كانت الأولى طبعاً التي تكتشف أن هذه هي صورتها لدى رئيس أميركي. ففي أيام الرئيس جورج بوش الابن، قال مندوبه الدائم فيها، السفير جون بولتون، ما هو أشد من ذلك وأفدح، عندما صرح بأن المبنى إذا كان يتكون من 38 طابقاً، فلن يُضار العالم في شيء، أن نزيل منه عشرة طوابق كاملة!
كان هذا هو تقدير بولتون للأمم المتحدة، التي لا يزال يُعوّل عليها مساكين العالم، وفقراؤه، وبؤساؤه، وتعساؤه، لعلها تنصر قضاياهم العادلة وتنصفها!
ويبدو أن الكونغرس الأميركي، أيام بوش الابن، كان تقديره للأمم المتحدة مختلفاً عن تقدير السفير، ولذلك، فحين أحس بوش بشيء من هذا النوع، تجنب عرض اسم سفيره على الكونغرس، لأخذ الموافقة عليه كالعادة، وانتهز وجود البرلمان بمجلسيه في إجازة، وأرسل بولتون إلى نيويورك مندوباً دائماً للولايات المتحدة في المقر الرئيسي للمنظمة الدولية، ولو عرض الاسم، لربما كان لأعضاء مجلسي النواب والشيوخ رأي آخر!
إنني كلما قرأت كلاماً عن الأمم المتحدة، وعن أن وظيفتها التي قامت من أجلها، غير متحققة على الأرض، أتذكر على الفور ما كنت قد سمعته من الدكتور نبيل العربي، الأمين العام السابق للجامعة العربية، عن أن أمين الجامعة في ظل ميثاقها الحالي، الذي نشأت على أساسه عام 1945، يجد نفسه وهو يعمل بميثاق كهذا، أقرب ما يكون إلى رجل مطلوب منه أن يسابق سيارة موديل 2017، بسيارة موديل 1945!
القصة في الأمم المتحدة هي أيضاً الميثاق الذي قامت على أساسه، وما لم يستبدل بهذا الميثاق آخر يخاطب العصر الذي يعيشه العالم، فسوف يظل دونالد ترمب يراها نادياً للتسلية، وسوف يظل بولتون يرى ضرورة إزالة عدة طوابق من طوابقها العالية لأنها بلا لزوم!
ولكن ميثاقها في حاجة وهو يوضع، من جانب إدارة ترمب، أو غير إدارة ترمب، إلى قلب تتطلع به أي من هذه الإدارات إلى العالم، قبل العقل الجامد!