د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

فرصة جديدة للسلام

وضع الرئيس عبد الفتاح السيسي خطابه الرسمي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة جانباً، وبدأ الحديث باللهجة العامية المصرية موجهاً حديثه للشعبين الفلسطيني والإسرائيلي. عندما يحدث ذلك عادة فإنه لأن الرئيس يريد أن تكون كلماته عفوية ومن القلب وبشكل مباشر للمراد الحديث إليهم. كان جوهر الكلمات القليلة ما بين قراءة النص الرسمي ثم العودة إليه مرة أخرى هي أن هناك فرصة كبيرة للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأن الفلسطينيين عليهم انتهاز الفرصة بالمحافظة على وحدتهم؛ أما الإسرائيليون فعليهم أيضا الالتفاف حول قيادتهم عندما تبدأ السير في طريق السلام لأن أمن إسرائيل والإسرائيليين، وكذلك أمن الفلسطينيين لن يتحققا إلا عندما يتعايش الطرفان في سلام. الإطار العام للحديث معروف ومحدد، وهو يدور حول حل الدولتين ضمن حدود 5 يونيو (حزيران) 1967، وقيام دولة فلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية وعاصمتها القدس الشرقية، وكل ذلك في إطار المبادرة العربية للسلام التي تعطي إسرائيل الاعتراف والأمن والتطبيع مع الدول العربية، مقابل الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة. كان ممكناً للرئيس أن يطلب من معاونيه أن يضعوا كلماته ضمن النص الرسمي للخطاب، خصوصاً أنه يجري توزيعه على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ولكنه آثر الحديث المباشر وبالعامية المصرية لأنه أراد إرسال رسالة مباشرة، وفيها الكثير من المصداقية، خصوصاً أنه وفي سياق الحديث المباشر أشار إلى أن تجربة السلام المصرية - الإسرائيلية التي استمرت أربعين عاماً تقريباً كانت «رائعة».
قليل من الحديث جرى في الدوائر العربية عن تجربة السلام المصرية والأردنية أيضاً مع إسرائيل، لأن مصر والأردن يعتبران السلام ناقصاً ما دام أنه لم يشمل الجلاء الإسرائيلي عن الأراضي العربية المحتلة في فلسطين والمرتفعات السورية. ولعل هذا النقصان هو ما يجعل الدولتين، ومعهما باقي الدول العربية لا تكف عن السعي لكي يتحقق السلام الشامل والعادل في المنطقة. وبينما وضعت المبادرة العربية التي بدأتها المملكة العربية السعودية إطاراً عاماً وتاريخياً للحل، فإن المشاركات المصرية والأردنية لم تتوقف عن السعي سواء كان ذلك من خلال جهود ثنائية أو جماعية. الجديد هذه المرة والذي يعطي الأمل في وجود فرصة لتحقيق السلام أن العاصفة الكبرى التي مرت على المنطقة منذ مطلع العقد الحالي بدأت تفقد قوة اندفاعها، وكذلك أوضحت هشاشة الأمن في كثير من الدول، وكذلك الأمن في الإقليم ككل، ونتيجة هذه وتلك هو تضافر جهود دولية وإقليمية من أجل تسوية الأزمات القائمة في المنطقة؛ وهذه لا تتحقق دونما تسوية الصراع العربي الإسرائيلي وفي القلب منه القضية الفلسطينية.
هناك أمران يجعلان الفرصة سانحة: أولهما أن حركة حماس قامت بخطوة جوهرها القبول بحل الدولتين، وبخطوة أخرى جوهرها إعادة الوحدة مع السلطة الوطنية الفلسطينية ودعوة الحكومة الفلسطينية إلى العودة مرة أخرى إلى قطاع غزة وإجراء الانتخابات الفلسطينية الرئاسية والنيابية. بالطبع فإن «الشيطان» يكمن في التفاصيل كما يقال، والعبرة في هذه الأمور هي من سيقع في يده «أمن» قطاع غزة في النهاية، ولكن في ظل النوايا والتفاعلات الطيبة والظروف الحالية بالنسبة للقضية الفلسطينية فإن عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة سوف تكون عودة كاملة. وثانيهما أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب لديه ما يكفي من التصميم والعزم للتوصل إلى تسوية تذكر له في تاريخ الإنجازات.
تحسن ظروف التسوية والفرصة المتاحة لا يجعلان أحداً يغفل عن العقبات والمعضلات الواجب حلها؛ ولكن الفرص لا تصير واقعاً إلا إذا جرى العمل من أجلها وحمايتها من المفاجآت خصوصاً تلك التي تحدث في السياسة الداخلية لكلا الطرفين. العقبة الكبرى المعروفة هي التركيبة الحالية للوزارة الإسرائيلية والتي لا تقبل في عمومها بحل الدولتين، وإذا عبرت عن ذلك فإنها تكون من جانب التحركات الدبلوماسية التي تستهدف إضاعة الوقت والمناورة من أجل تنازلات أكبر. العقبة الأخرى والمعروفة أيضا هي أن إجراء الانتخابات الفلسطينية طبقاً لاستطلاعات الرأي العام الحالية سوف تفضي إلى فوز حماس والسيد إسماعيل هنية، ومثل هذا مهما كان الرأي مواتياً للديمقراطية سوف يجعل عملية السلام مستحيلة. كلتا العقبتين يمكن التعامل معهما من خلال الحديث المباشر مع الشعب الإسرائيلي كما فعل الرئيس السيسي في خطابه. مثل هذه الرسائل تفتح الأبواب لتركيبة أخرى في الحكومة الإسرائيلية تستطيع التعامل مع فكرة السلام وتبعاتها وفي مقدمتها الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة. على الجانب الآخر فإن مطالبة إسرائيل بالإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، وفي المقدمة منهم الدكتور مروان البرغوثي سوف توفر الظروف الملائمة لحكومة فلسطينية يمكنها التعامل بمصداقية مع عملية السلام. الدكتور مروان البرغوثي ليس فقط من أبطال الشعب الفلسطيني المعروفين بالذود عن الحقوق الفلسطينية، بل إنه أيضا أحد أبطال السلام الذين سعوا من أجله رسمياً في إطار اتفاقيات أسلو، وغير رسمي من خلال منظمات شعبية وأهلية.
الطريق إلى التسوية والسلام بين الدول العربية وإسرائيل لن تكون ممهدة ولا سهلة، ولكنها ليست مستحيلاً إذا ما حسن الإعداد لها وتحديد خطواتها، والاستفادة من التجارب السابقة التي وإن سمحت بإقامة أول سلطة وطنية فلسطينية على الأرض الفلسطينية في التاريخ؛ فإنها في الوقت ذاته سمحت لقوى مختلفة على الطرفين من المتطرفين والغلاة بإفساد عملية السلام كلها وتدميرها تدميراً. اليمين المتطرف الإسرائيلي، وذلك المتطرف الفلسطيني، عطلا المسيرة كلها بالمزايدة السياسية والعنف وبذل كل الجهود لكي تبقى الأوضاع الحالية على ما هي عليه. تجاوز هذه العقبة يبدأ باتفاق لوقف إطلاق النار لفترة زمنية كافية للتفاوض. لقد مضى على القضية الفلسطينية سبعون عاماً، وعلى الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين خمسون عاماً، ولا بأس أن يكون هناك وقت كاف للتفاوض لكي تُستَردْ الأرض وتقوم الدولة. لقد خطى الفلسطينيون خطوات غير قليلة على طريق إقامة الدولة، ولكنها لا تزال تحتاج توافقاً وطنياً على أن الدول لا تقوم فقط بزوال الاحتلال وإنما بالاحتكار الشرعي لوسائل العنف، وكذلك إذا ما توافرت المقومات الاقتصادية الخاصة بالدولة. الأولى تحل بأن تصبح جميع منظمات المقاومة أحزاباً سياسية تتنافس على أساس من برامج تدير الدولة الفلسطينية الوليدة وتدير علاقاتها مع العالم وجيرانها وفي المقدمة منهم إسرائيل حيث يوجد مليون وستمائة ألف فلسطيني. والثانية تحل من خلال تقوية البنية الأساسية للدولة من خلال بناء مطار وميناء في غزة، وكذلك، وفقاً لما كان في اتفاقيات أسلو وما تلاها، استئناف العمل في الطريق بين غزة والضفة الغربية بحيث يتكامل جناحا الدولة الفلسطينية. حول ذلك ينبغي أن تكون المفاوضات المقبلة، وفيها سيكون الاختبار لنوايا الأطراف المعنية عما إذا كانت لدينا فرصة حقيقية أم محض سراب!