خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

ملانخوليا الهجرة

نشأ نوع جديد من الشعر، مدرسة كاملة في الشعر العربي في أوائل القرن المنصرم. عرفناها بشعر المهجر الذي لمعت بين نجومه أسماء مثل ميخائيل نعيمة، وإيليا أبو ماضي، وجبران خليل جبران. إنهم العرب الذين هاجروا إلى العالم الجديد. ويظهر أننا ختمنا ذلك القرن بمدرسة تقابلها، تشابهها وتختلف عنها. إنها مدرسة شعراء التمرد. وتضم أولئك الشعراء الذين لم تستطع الأنظمة الديكتاتورية أن تستوعبهم. أو لم يستطيعوا هم أن يستوعبوا العيش في ظل أشباحها، فرحلوا عن أوطانهم إلى وطن الغربة. امتاز شعرهم بالحنين إلى ديارهم الأصلية، والحنين للماضي، والنقمة على الحاضر، والتشاؤم من المستقبل. إنها مدرسة ملانخولية مكتئبة ينخر فيها اليأس والألم. نجد إشعارهم في هذه الأيام في سائر المطبوعات الصادرة بصورة خاصة في عواصم الغرب.
من هؤلاء الشعراء كان زميلنا بلند الحيدري الذي نظرت أشعاره في الواقع منذ أيام شبابه وحتى في عهود الاستقرار، إلى محنة التشرد التي ذاقها أولاً في شوارع بغداد ومقاهيها. صاحبه بالطبع في هذه المسيرة الكثير من أصدقائه من شعراء وأدباء. كان بين هؤلاء صديقه أنيس الذي وجد نفسه مشرداً في مقاهي باريس، وشعر بالحنين لا لوطنه العراق وحسب، بل لصديق عهود مضت وألقت به مشرداً، هو الآخر، ولكن في عاصمة أخرى من العواصم الغربية، هي باريس. فكتب إليه يعبر شجونه. وكان في حالة كآبية سوداء، فقال:

بلند يا من أنت ملء خاطري
غربتنا سوداء كالمقابر
قل لي متى نعود للبلاد
وننقذ الأرض من الفساد؟
قل لي متى يعود للزهور
شميمها العابق بالعطور
قل لي متى يا شمعة الديجور

وقد رد عليه أبو عمر، رحمه الله، بهذه الأبيات الإخوانية التي تضمنت لفتات ساخرة مؤلمة لا تخلو عن الدعابة والدغدغة التي جمعت بين الحلو والمر في بساطتها وبراءتها الصادقة:

أنيس يا من بز ألف شاعر
من امرئ القيس إلى الجواهري
في كل بيت قاله منارة
شامخة تسخر بالمنائر
أشكو إليك يا أخي من زمن
صرنا به نحكم بالقنادر
من سارق من فمنا لقمتنا
وخارج من جزمة العساكر
شردنا من بلد لآخر
والله يدري كم لنا من آخر