عدنان حسين
* كاتب عراقي
TT

الخيارات المُهمَلة في العراق

في السياسة لا يوجد خيار واحد، ولا حتى خياران فقط. هناك دائماً ثلاثة خيارات في الأقل، فشجرة الحياة دائماً خضراء كما يقول غوته، وهذا ما يفسّر شيوع عبارة «كل الخيارات مفتوحة، أو متاحة، أو قائمة» على ألسنة السياسيين والدبلوماسيين في أوقات الأزمات خصوصاً.
يمرّ العراق الآن بأخطر أزمة منذ اجتياح تنظيم داعش ثلث مناطق البلاد ووصوله إلى مشارف العاصمة بغداد. أزمة الاجتياح الداعشي هدّدت جدّياً بإطاحة نظام ما بعد صدام حسين، والأزمة الحالية تهدّد بعدم قيامة عراق ما بعد صدام حسين، العراق المستقرّ الماضي في طريق التنمية والرفاه. في بغداد ومدن أخرى يخيّم الآن جوّ من الكراهية حيال الكرد جميعاً، وليس حيال قوى أو شخصيات كردية ساعية لإجراء الاستفتاء على حق تقرير المصير والاستقلال لإقليم كردستان. حتى في عهد صدام ومع تمتّع الكرد بالاستقلال عن بغداد بحماية دولية قادتها الولايات المتحدة، لم يرفع أحد صوته بإخراج الموظفين الكرد من وظائفهم وتهجيرهم من بغداد، ومصادرة أملاكهم كما هو حاصل الآن. وراء هذه الحملة العنصرية قوى نافذة في السلطة العراقية، هي تحديداً من قوى الإسلام السياسي التي تتكشف عن شوفينية تفوق شوفينية حزب البعث.
استمرار هذه الأزمة سيضرب في عمق النسيج الاجتماعي العراقي وكيان الدولة العراقية الموحَّدة، ذلك أن الكرد باقون كمواطنين عراقيين حتى لو أجروا اليوم الاستفتاء الذي لن يعني تحقيق الاستقلال في اليوم التالي أو في العام التالي، فهذه عملية إن قُدّر لها أن تبدأ يمكن أن تستغرق عشر سنوات أو أكثر، وحملة الكراهية الحالية من شأنها زيادة شعور الكرد بأن النظام الجديد الذي أسهموا في إنشائه هو الآخر يعاملهم كمواطنين من الدرجة الثانية. وما يفاقم من هذه الأزمة أن الكثير من أطرافها يتعامل في الغالب على وفق مبدأ الخيار الواحد، من دون التعمّق في التفكير والبحث عن خيارات أخرى غير إجراء الاستفتاء الآن برغم كل شيء، أو عدم القبول به البتّة وشيطنته بالمطلق والتهديد بإجراءات عنفية لمواجهة نتائجه.
منذ سنوات لم يكن الكرد يطرحون موضوع الاستقلال، فهم يتمتّعون نظرياً بوضع فيدرالي وعملياً بوضع شبه كونفدرالي. قضية تقرير المصير طُرِحت في عهد الحكومة الثانية لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وهو عهد اتّسم بمنحى ديكتاتوري، فقد عمل المالكي تدريجياً على تركيز السلطات في يديه تجاوزاً على أحكام الدستور. مما ساعده في ذلك الزيادة الكبيرة في عائدات النفط (فاقت في بعض السنوات المائة مليار دولار سنوياً). في ذلك العهد تفاقمت المشكلات ليس فقط مع الكرد، بل أيضاً مع السنة الذين تعنّت المالكي حيال مطالبهم بوضع حدّ لما كانوا يصفونها بسياسة تهميشهم والتمييز ضدهم، وسعى إلى وقف احتجاجاتهم بالقوة المسلحة، بذريعة أن تنظيم «القاعدة» الإرهابي وحزب البعث المحظور يقفان خلفها.
الكرد من جانبهم رأوا أن المالكي انتهج السياسة ذاتها معهم، وكانوا يؤاخذونه وكتلته الأكبر في البرلمان الاتحادي على عدم تطبيق المادة 140 من الدستور التي وضعت خريطة طريق لحلّ مشكلة كركوك والمناطق الأخرى المتنازع عليها، وعدم تشريع قوانين أساسية تتعلق ببناء الدولة وبشراكة العرب والكرد فيها، كقانون مجلس الاتحاد وقانون النفط والغاز وقانون الهيئة الخاصة بضمان حقوق الأقاليم والمحافظات. وقطعت حكومة المالكي تخصيصات قوات البيشمركة المالية في الموازنة العامة للدولة، برغم أنها جزء من المؤسسة العسكرية والأمنية الوطنية مكلّف ضمان الأمن الداخلي لإقليم كردستان وتأمين حدوده، وفي وقت لاحق قُطِعتْ تخصيصات موظفي حكومة الإقليم كلهم. المالكي من جانبه، ومن بعده خليفته حيدر العبادي، كان يحاجج بأن القيادات الكردية تبيع النفط المنتج في الإقليم لحسابها ولا تسجّل موارده في الموازنة العامة للدولة، وهو ما كان يردّ عليه الكرد بأن قطع مخصصات البيشمركة والموظفين العموميين قد أرغمهم على ذلك، فضلاً عن عدم تشريع قانون النفط والغاز الذي كان سيضمن إدارة هذه الثروة الوطنية، وتوزيع مواردها على سكان البلاد ومناطقها بعدالة وإنصاف.
حتى بعد انتهاء حقبة المالكي ظلّت المشاكل نفسها قائمة، بل تفاقمت وما أسهم في ذلك احتلال «داعش» ثلث مساحة البلاد بما فيها مناطق كردستانية، ما ولّد المزيد من مشاعر الخوف لدى الكرد من أن مستقبلهم ليس مضموناً في إطار الدولة العراقية.
طُرِحت فكرة الاستفتاء على الاستقلال في العام 2014 بيد أن الانشغال بالحرب مع «داعش» أجّل تنفيذ الفكرة التي أعيد طرحها أخيراً مع اكتمال تحرير المدن الرئيسة التي احتلّها التنظيم، وبخاصة الموصل التي أعلنها عاصمة لـ«دويلته».
طرفا الأزمة (حكومة بغداد وقوى الإسلام السياسي المتنفذة فيها، وإدارة إقليم كردستان) تعاملا مع الأزمة وفق مبدأ الخيارات المحدودة، فبغداد نظرت إلى الاستفتاء بوصفه الخطوة الأولى للاستقلال المرفوض جملة وتفصيلاً، فيما لم تقبل القيادة الكردستانية بغير إجراء الاستفتاء في الوقت المحدّد ما لم تحصل على بديل مقبول.
على الدوام كان هناك، ولم يزل، خيار ثالث ورابع لحلّ هذه الأزمة. الطرفان لم يبحثا جدّياً في خيار العمل للتقيّد بأحكام الدستور وتعديله، وهذا استحقاق متوجب منذ ما قبل عشر سنوات، وتشريع القوانين المتوجب تشريعها. والكرد الذين كانوا يشتكون من أن شركاءهم في بغداد، وبخاصة الأحزاب الشيعية، قد خرجوا على مبدأ الشراكة والتوافق، لم يذهبوا إلى خيار آخر هو فكّ هذه الشراكة والبحث عن شركاء جدد وتشكيل جبهة سياسية (معارضة) يُمكنها أن تضمّ إلى جانبهم ائتلاف الوطنية (إياد علاوي) وكتلة الأحرار (الصدرية) والتيار المدني، وقوى وشخصيات وطنية عراقية معروفة تاريخياً بتفهمها للمطامح الكردية وتشاطر الكرد مطالبهم بخصوص الدستور، وبينها الحزب الشيوعي وسائر قوى اليسار العراقي.
هذان الخياران قائمان ومتاحان الآن، ويظلّان كذلك حتى لو مضى الكرد في مشروع الاستفتاء الأسبوع المقبل، والأرجح أنهما كفيلان بنزع فتيل الأزمة الخطيرة التي يواجهها العراق بكافة قومياته ومكوناته وتنذر بعواقب غير محمودة.