د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

التونسيون والمصالحة: جدل إلى ما لا نهاية

يعيش التونسيون خلال هذه الأيام على وقع جدل ساخن جداً اشتعل بعد مصادقة مجلس الشعب بالأغلبية على قانون المصالحة الإداريّة. وهو جدل متوقع، حيث أعلن المعارضون لهذا القانون عن رفضهم وتوعدهم بالطعن في دستوريته قضائياً.
كما أن التوتر أصبح خاصية ثابتة في كل نقاش يتناول مسألة المصالحة، إذ وجد مشروع المصالحة الوطنية الذي تقدمت به أيضاً مؤسسة الرئاسة في تونس رفضاً راديكالياً من أحزاب المعارضة وأطراف عدّة من المجتمع المدني.
إذن كل مبادرة، أو مشروع قانون، تتبنى بعداً من أبعاد مفهوم المصالحة أصبحت تثير حساسية المعارضة التونسيّة وتتعاطى معها بريبة وشك في كونها التفافاً على الثورة وتبييضاً للفساد والفاسدين.
فكيف يمكن أن نفكك هذا الجدل الساخن إلى حدّ التوتر؟ وهل هو حقاً كما يريد البعض تسويقه على اعتبار كونه صراعاً بين قوى الخير وقوى الشر؟
يبدو لي أنه من المهم التذكير بمسألة مهمة جداً، وهي أن التونسيين انخرطوا في طريق المصالحة عندما أسقطوا في المجلس الوطني التأسيسي قانون العزل السياسي، إذ أن رفض المصادقة عليه رغم أن حركة النهضة كانت تدافع عنه إنّما هو تجسيد فعلي وسريع جداً للمصالحة السياسيّة مقارنة بتاريخ الثورة نفسه.
ولكن تمّ القبول بالمصالحة السياسية وتشجيعها لأن في رفضها تفويت المجال السياسي مفتوحاً على مصراعيه لحركة النهضة. بمعنى آخر فإن القبول بالمصالحة السياسية من خلال إسقاط قانون العزل خضع إلى اعتبارات سياسية قوية وليس إلى دافع مبدئي.
المشكلة أنه بعد هذا التاريخ المتسامح مع المصالحة حصل نوع من الارتداد فيما يخص المصالحة الاقتصادية والإدارية، وهو ارتداد مفهوم ومبرر من الطرفين المختلفين.
للتذكير فإن مشروع قانون المصالحة الاقتصادية وقانون المصالحة الإدارية اللذين تمت المصادقة عليهما بالأغلبية خلال الأيام الأخيرة قد تقدمت بهما مؤسسة الرئاسة، أي الرئيس السبسي، الذي كان قبل انتخابه رئيساً رئيس حركة نداء تونس، الحزب الذي وُصف بأنه ولد كبيراً بفضل دعم الكثير من رجال الأعمال له، الذين راهنوا على حمايته لهم عند وصول الحركة إلى الحكم.
وإلى الآن والحركة تحاول الإيفاء بتعهداتها من جهة وأيضاً حل هذا الملف الذي تعتبره معطلاً لعودة رأس المال الوطني للاستثمار والشعور بالأمان من جهة ثانية. مع العلم أن قيام الحكومة قبل شهر رمضان المنصرم بإيقاف عدد من رجال الأعمال ووضعهم تحت الإقامة الجبرية ومصادرة ممتلكاتهم شكل تشويشاً وإرباكاً لمسار مشروع قانون المصالحة الاقتصادية، حيث اعتبر تدخلاً سياسياً وتجاوزاً لهيئات دستورية وقضائية موكول لها متابعة ملفات الفساد، وأيضاً هتف له الكثير من التونسيين وصفقوا.
إذن نلاحظ أن ملف المصالحة الاقتصادية والمالية يفتقد إلى الإدارة السياسية الواحدة والدقيقة، الأمر الذي جعل هذا الملف متروكاً إلى حين مع التركيز على المصالحة الإدارية والإسراع في المصادقة عليها وسط توتر كبير.
بالنسبة إلى مؤسسة الرئاسة صاحبة مشروع قانون المصالحة الإدارية ترى أن الكثير من الموظفين السامين قاموا بتجاوزات تحت ضغط أصحاب نفوذ النظام السابق ومن الظلم محاسبتهم قانونياً، وهم بشكل خاص الذين لم يتلقوا رشى أو هبات رغم تورطهم في قضايا فساد. وتقول رئاسة الجمهورية إن قرابة 1500 موظف سامٍ سيكونون معنيين بقانون المصالحة الإدارية وإن عدم العفو سيكون ضد الإدارة التونسية التي عرفت تراجعاً في المبادرات وتراجع ترتيبها بنسبة خمسين في المائة في السنوات الخمس الأخيرة.
أما المعارضون للمصادقة على هذا القانون الذين توجهوا للقضاء للطعن في دستوريته ولديهم آمال واسعة في ربح القضية وإسقاط القانون، فيرون أن رفضهم مبدئي، لأن هذا القانون يضرب مصداقية فكرة العدالة وتساوي التونسيين أمام القانون.
من جهة ثانية يبدو لنا هذا التعنت الواضح من طرف المعارضة كأنه نوع من التصدي لمشاريع قوانين قادمة تندرج ضمن عنوان المصالحة، حيث إن القبول وعدم الاحتجاج قضائياً ودستورياً يعني أن البساط سحب من تحتهم نهائياً.
ولكن هناك معطى مهماً وقوياً يتجاهله المعارضون، وهو أنهم برلمانياً يمثلون أقلية وأن هذا القانون حظي بمصادقة الأغلبية التي تمثل بدورها الأحزاب الحاكمة التي فازت في الانتخابات التشريعية. بمعنى آخر نريد أن نقول إن المعارضة التونسية إذا أرادت بالفعل أن تكون مؤثرة في عملية التصويت عليها أن تشتغل على التغلغل الشعبي أكثر والرفع من نسبة تمثيلها في البرلمان. ذلك أنّه من قوانين الديمقراطية الجائرة الولاء لعدد المقاعد في البرلمان ولنسب التصويت.
وفي معزل عن كل هذا من المهم إحكام إدارة ملف المصالحة وسد ثغراته السياسية والقانونية كي يبنى الانتقال الديمقراطي بأكثر ما يمكن من عدالة ومصالحة وطنية بالأساس.