سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

العراق الذي نعرفه!

لست أجامل الكاتب الأستاذ غسان شربل، رئيس تحرير هذه الجريدة، في شيء، إذا قلت إن الامتنان له واجب، على إنه طار إلى العراق في رحلة عمل صحافية، أتاح خلالها للقارئ مادة مكتوبة راقية، من مدينة أربيل مرة، ثم من مدينة كركوك مرة ثانية، وفيما بين المدينتين، كان العراق حاضراً في كل الأوقات!
لست أجامل الرجل في شيء؛ لأنه بمثل ما أتاح للقارئ مادة من نوع ما أشرت إليه، بمثل ما جعل النوم، دون أن يقصد طبعاً، يجافي عينيه!
وإذا كان هناك من بين السادة القراء، مَنْ سوف يظن أني أبالغ، فلن أطالبه بشيء إلا أن يراجع المادة المنشورة عن الرحلة، ما بين مقال في صفحة الرأي، وحوار مُطول مع مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان، وتقرير احتل ما يقرب من صفحة كاملة، في عدد الجريدة الصادر صباح الخميس الماضي، وإلى جانب المقال، والحوار، والتقرير، تناثرت أخبار بامتداد الأيام، تضع الصورة في الإقليم، وفي كركوك بصفة خاصة، أمام القارئ بشتى زواياها!
وهل يمكن للقارئ المهتم، أن يعرف طعماً لنوم، إذا أحس بأن العراق الذي عشنا نراه دولة واحدة قوية، ومتماسكة، ومتصلة الأركان، يمكن أن نستيقظ عليه في صباح السادس والعشرين من هذا الشهر، لنجده دولتين، لكل واحدة منهما عَلَم ونشيد؟!
هل يمكن لأي عربي يطالع مثل هذا المعنى مُكرراً بأكثر من صيغة، في مادة الرحلة، إلا أن يبيت ليلته وقد استبد به القلق والأرق؟!
لقد عشنا نقرأ أن مصر كانت دائماً تؤلف الكتب، وأن لبنان كان يطبع، وأن العراق كان يقرأ، فمَنْ سيقرأ بعد اليوم، إذا كان العراق يريد أن يكون عراقين؟!
لقد حدد بارزاني اليوم الخامس والعشرين من هذا الشهر، موعداً للاستفتاء على الاستقلال، وهو لا يريد أن يعيد النظر في الموعد الذي حدده، إلا بضمانات مكتوبة من بغداد ومن الولايات المتحدة، ومن الاتحاد الأوروبي، ومن أطراف أخرى، تحدد موعداً جديداً، وتقبل نتائج الاستفتاء عندما ينعقد في تاريخه الجديد!
أما حيدر العبادي، رئيس وزراء العراق، فلقد قال ولا يزال يقول، إن الذهاب إلى الاستفتاء، هو ذهاب إلى نفق مسدود، وإنه لن يؤدي إلى أي نتيجة للأكراد في كردستان، وإن على قيادات الإقليم أن تفكر طويلاً، قبل أن تقذف بأبنائه إلى المجهول!
إنني أقرأ هدا الكلام للعبادي، وأقرأ ذاك الكلام لبارزاني، وأسأل نفسي عن السبب الذي يمنع كلا الرجلين من أن يلتقيا عند نقطة ما، في منتصف الطريق. إن بارزاني يقف على شاطئ، والعبادي يقف على شاطئ آخر في المقابل، وليس مطلوباً من كليهما، في هذا الظرف الدقيق، إلا أن يقطع كل واحد منهما خطوة في اتجاه الآخر، ولو حدث هذا، ولا بديل عن حدوثه، فسوف يلتقيان عند نقطة في المنتصف، ولن يكون التقاؤهما إلا من أجل العراق، والعراق وحده، العراق الذي جئنا إلى الدنيا نراه عراقاً واحداً لا يقبل القسمة على اثنين! العراق الذي لا بد أن يأتي عليه يوم يعاود فيه القراءة، ويعاود فيه لبنان الطباعة، وتعاود فيه مصر، الكتابة والتأليف!
روى جلال طالباني، الرئيس العراقي السابق، أن طارق عزيز، وزير خارجية صدام حسين، خاطبه ذات يوم في جفاء وحزم، فقال: «ليس لكم في كركوك إلا البكاء عليها»!
وحين التقى صدام حسين، بارزاني، خاطبه فقال: «أنا لا أنكر أن كركوك كردية؛ لكننا لن نعطيكم إياها؛ لأنها قاعدة جاهزة لإعلان دولة»!
أتوقف أمام هذين الموقفين، وأنا لا أصدق أن عراقياً يمكن أن يخاطب عراقياً آخر، بصيغة لا يمكن أن تكون بين مواطنين اثنين ينتميان إلى البلد نفسه، وإلى الوطن ذاته. صحيح أن جلال طالباني في الموقف الأول، كان قيادة كردية كبيرة، وصحيح أن طارق عزيز كان وهو يخاطبه، وزير خارجية صدام، غير أن الأصح هو أن كليهما كان عراقياً في اللحظة ذاتها، وبالتالي فالمتصور أن يكون الكلام بينهما بلغة: «نحن»، لغة «نحن» التي تشير إلى انتمائهما لبلد واحد، لا لغة «أنا وأنت»، التي تقول إن هذا له انتماء في البلد، وأن ذاك له انتماء آخر!
وما يقال عن موقف طالباني مع عزيز، يقال عن موقف صدام مع بارزاني!
فالرئيس صدام لم يجد حرجاً في أن يقول: «أنا لا أنكر أن كركوك لكم»!! ولا بد أن القارئ سيقف أمام كلمة «لكم» غير مُصدّق؛ لأنها تكشف عن لغة لا يمكن تصورها في خطاب بين رئيس دولة، وبين مواطن من مواطني الدولة، ولأن كركوك مدينة عراقية قبل أن تكون كردية، وهي ليست للأكراد، بمثل ما إنها ليست للسلطة في بغداد. إنها عراقية أولاً، والمعنى أنها للعراقيين جميعاً، وأن في ثروتها نصيباً لكل عراقي، دون تمييز بينه وبين عراقي آخر!
وما ينطبق على كركوك هنا، بوصفها مدينة من مدن الشمال، ينطبق على البصرة، باعتبارها مدينة من مدن الجنوب، وإذا كانت هذه الروح قد غابت أيام صدام، وتوارت في حديثه مع بارزاني، وفي حديث عزيز مع طالباني، فذلك زمن نتخيله قد مضى بسقوط نظام صدام كله، في العام الثالث من هذه الألفية، ليأتي في مكانه زمن جديد، تعود فيه تلك الروح التي غابت لتسود!
إذا جاز في وقت صدام، أن يتكلم مع بارزاني على أساس أن بغداد كذا، وأن كركوك كيت، فهذا خطاب سياسي من زمن مضى، زمن سقط بسقوط نظامه السياسي الحاكم، زمن جاء في مكانه زمن آخر، تظل فيه بغداد، وكركوك، وغيرهما من مدن البلد، مُدناً عراقية في الأول وفي الآخر، تظل مدناً تتعامل مع كل مواطن على أساس أنه يحمل الجنسية العراقية، بصرف النظر تماماً عن كل ما عداها، الجنسية العراقية باعتبارها الهوية التي لا هوية تسبقها في ترتيب الهويات بامتداد الوطن!
ليت العبادي وبارزاني يثقان في أن العراق الموحد أقوى وأبقى، وأن التاريخ يرقب خطوات كل واحد منهما في هذه اللحظات، ليسجلها له، أو عليه!