د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

الحرب الكورية الثانية

قيل إن الحرب العالمية الثانية كانت النتيجة الطبيعية للحرب العالمية الأولى، ويبدو الآن وسط التهديدات المتصاعدة حول الموقف الملتهب في كوريا (الشمالية والجنوبية) الذي قد يقودنا إلى جولة حرب أخرى. فالحقيقة هي أن الحرب الكورية الأولى (1950 - 1953) لم تنتهِ - على الأقل رسمياً - بعد، فما لدينا لا يزيد، وفق وثائق الأمم المتحدة، عن حالة «هدنة» ترتب عليها كل مترتبات هذه الحالة، من وجود منطقة منزوعة السلاح بين الجانبين، ولكن أسلحة كل طرف مصوّبة تجاه الطرف الآخر.
كلا الطرفين الشمالي والجنوبي له حلفاؤه الكبار: الولايات المتحدة مع الجنوب، والصين حتى الآن تبدو حليفاً للشمال؛ ليس كما كان الحال أثناء الحرب الأولى، ولكن لأن الصين لا تريد كوريا موحدة إلى جوارها، بكل ما يترتب على ذلك من نتائج على التوازن العالمي. الحالة هكذا شبيهة بكل حالات التقسيم التي جرت بعد الحرب العالمية الثانية. فكما حدث في الهند، وفيتنام، وفلسطين، وكوريا، فإن التقسيم قاد إلى حالات من الاشتباكات والحروب. وفي حالة ألمانيا، فإن تقسيمها كان أهم فصول الحرب الباردة، متمثلة في أزمات متلاحقة. هذه الأزمات، التي عادة ما لا تكون حاسمة، تخلق حالة من التوتر الشديد الذي لا يعلم أحد إلى أين يقود إذا ما انفلت العيار، وعجزت العقول عن التحكم في الغرائز.
المشكلة الكبرى هي أنه لا أحد يعرف على وجه اليقين ما هي «نهاية اللعبة End Game» بالنسبة لكل الأطراف. كيم جونغ أون، زعيم أو رئيس أو ربما ملك كوريا الشمالية، لا يعرف أحد على وجه التحديد ماذا يريد من امتلاك سلاح نووي أولاً، ثم صواريخ تصل إلى كوريا الجنوبية وبقية دول الجوار، وأخيراً إلى الولايات المتحدة نفسها، أو إلى جزر قريبة - مثل غوام - تتبعها. تفسير يرى أن ذلك لاكتساب مكانة دولية، فيكون ضمن النادي الذري الذي يضم الدول ذات الاحترام. قول آخر أن المسألة كلها لا تزيد على رغبة في الابتزاز، بخلق برنامج خطر يمكن أن يبادل تجميده أو وقف تقدمه بمطالب اقتصادية كبيرة في بلد يعيش الفقر والمجاعة الشيوعية من وقت لآخر. قول ثالث إن الرجل لا يريد أن يلقى المصير الذي لقيه صدام حسين ومعمر القذافي في النوبة التي انتابت الولايات المتحدة لتغيير النظم السياسية في العالم.
ولكن الغموض لا يخص فقط الرئيس في بيونغ يانغ، وإنما أيضاً في واشنطن، فالرئيس الأميركي بدأ حملته ضد كوريا الشمالية منذ الحملة الانتخابية الرئاسية، عندما راح يتوعد الدولة الشيوعية بموقف جديد لا يتهاون ولا يضعف، كما كان الحال مع باراك أوباما. وعندما وصل إلى البيت الأبيض، راح يتوعد كوريا الشمالية بالقتال بما ليس لها قبل به، والغضب الذي يوقع بها ما لا تتحمله. المدهش، وكل ما في العلاقات الدولية عادة فيه ما يثير الدهشة، أن كلا الرجلين اللذين لا يعرف أحد «نهاية اللعبة» لديهما كانا على استعداد للاشتباك بمعارك كلامية، ومعها درجات مختلفة من الحشد العسكري. كوريا الشمالية قامت بسلسلة من التجارب الصاروخية المتتالية، والولايات المتحدة عززت وجودها البحري والجوي في كوريا الجنوبية.
الوضع هكذا انتقل من حالة «التوتر» إلى حالة «الأزمة». ومع توالي التصعيد، فإن أطرافاً دولية باتت تشعر بالحيرة الشديدة، والقلق من انفلات زمام الأزمة، فتتحول إلى حرب. كوريا الجنوبية ربما كانت أكثر الأطراف قلقاً، فهي دولة حققت من الرخاء والتقدم الاقتصادي ما لم تكن تحلم به، وهي الآن تقع في وسط دول العالم المتقدم، بل إنها منافس رئيسي في الاقتصاد العالمي. وعندما تكون الدولة غنية، وشعبها يرفل في الرخاء، فإن الحرب التي تودي بكل ذلك إلى التهلكة ليست من الأمور التي يمكن الترحيب بها.
الصين هي الأخرى لديها الحيرة الاقتصادية نفسها، فهي تعلم أنها يمكن أن تتفوق على الولايات المتحدة قبل انتصاف القرن، فتصير دولة عظمى، ولا تريد لأحد أو لحرب أن تعطل حركتها نحو الهدف الكبير. ولكنها على الجانب الآخر لا تستطيع القبول بكوريا موحدة تحت راية الجنوب، وبالتالي الولايات المتحدة. ومن جانب ثالث، فإنه لا أحد في الصين أو كوريا الجنوبية أو بقية الدنيا يعرف ذلك الذي يريده زعيم كوريا الشمالية الشاب، الذي تبدو عليه علامات التحدي، بحيث يتحرك، ليس وفق حسابات سياسية، بقدر ما هي حسابات غرائز وحشية تتضخم في حالات الدول الشمولية، التي لا يكون فيها فارق كبير بين الرئيس والآلهة. وفي الوقت الذي يبدو فيه أن العسكريين الأميركيين يقيدون حركة الرئيس ترمب، ويصرون على ضرورة استنفاد الوسائل الدبلوماسية، وإغراء الصين بالضغط على الزعيم الكوري الشمالي، فإن هذا الأخير لا يبدو عليه أن لديه من يقيد حركته الاستراتيجية.
الحالة هكذا دفعت كثيراً من المحللين للنظر في سيناريو الحرب، وما إذا كانت ستصبح نتيجة التصعيد المتبادل الذي يؤدي إلى انفلات الزمام والحرب، كما حدث مع الحرب العالمية الأولى التي لم يكن يريدها أحد، ولكنها حدثت على أية حال، أم أن أحد الطرفين قد يبدأ الأمر بضربة استباقية، فتقوم بها الولايات المتحدة لكي تشل الصواريخ الكورية الشمالية، أو تقوم بها كوريا الشمالية لكي تضع كوريا الجنوبية وقرابة 200 ألف أميركي (28 ألف عسكري، والباقي من الخبراء المدنيين الأميركيين الذين يعملون في الشركات الكورية الجنوبية) رهينة يمكن الضغط والمقايضة بها.
روبن رايت كتبت مقالاً في «النيويوركر» أخيراً، في 6 سبتمبر (أيلول) الحالي، عن كيف سيكون شكل الحرب مع كوريا. وكان تصورها أن السيناريو الممكن هو أن تسير الحرب على مرحلتين: مرحلة استباقية نظامية تشنها الولايات المتحدة وحلفاؤها لشل القدرات الصاروخية والنووية الكورية وإسقاط النظام، ولكن ذلك لن يعني نهاية الحرب، وإنما دخولها مرحلة أخرى من الحرب غير النظامية التي يشنها الأنصار والمؤيدون للنظام الشيوعي.
النموذج كما هو واضح يمضي كما مضى في الحرب الأميركية في العراق بعد 2003، ولكن التاريخ يعلمنا أن الحروب ليست متماثلة، كما أن هناك دائماً أموراً تحدث لم ينتوِها أحد تفاجئ الجميع بتعقيداتها، فهناك أشكال من الحروب المفتوحة التي لا تنتهي أبداً، والولايات المتحدة ما زالت في أفغانستان منذ 16 عاماً. وهناك السيناريو الذي يقوم على النموذج الألماني، الذي عبر فيه الشعب من الشرق إلى الغرب لكي يصل إلى توحيد ألمانيا مرة أخرى، وربما في الحالة الكورية يكون العبور من الشمال إلى الجنوب. وفي الحالتين، كان العبور من الفقر إلى الغنى. النظام الكوري الشمالي لا يماثله نظام آخر في عالم اليوم. وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي، والتطور الاقتصادي الرأسمالي في الصين وفيتنام، فإن الحالة الكورية الشمالية قد تصل إلى متاحف التاريخ... ربما؟!