محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

«الباتنا»... سر التفاوض الناجح

كنت دائماً أعجب بمهارة والدتي في التفاوض مع البائعين، لا سيما حينما أراها تومئ للبائع بأنها ستمضي إن لم يخفض لها السعر. وما إن تصل إلى باب ذلك المتجر الشعبي حتى نسمع صوت البائع مستجيباً للسعر الذي وضعته «أم محمد»! عرفت لاحقاً من خلال نقاش مستفيض جمعني مع أستاذ متخصص في فنون التفاوض بجامعة هارفارد، البروفسور غاري أورن، أن هذا الأسلوب من أهم فنون التفاوض الذي أطلق عليه البروفسور في جامعة هارفارد روجز فيشر اسم «BATNA»، وهي الحروف الأولى لكلمات جملة: «أفضل بديل لما يتم الاتفاق عليه». بمعنى آخر؛ لا بد أن تكون بدائلنا حاضرة في أذهاننا أثناء النقاش. على سبيل المثال، لا يعقل أن يدخل الفرد مقابلة وظيفية، أو متجراً، وليس لديه هامش حدود الراتب والامتيازات، أو سعر المنتج المقدم في السوق، حتى يمكن أن يحدد موقفه من النقاش، ويعلم ما الحد الأدنى الذي لا يمكن أن يقبل به.
و«الباتنا» مهمة لأنها ترسم أمام ناظري صاحبها خطاً أفقياً لحدود خياراته، لا سيما حينما يكون محاوره في وضع أقوى منه، فينسحب مثلاً إذا تشبث خصمه بالحد الأدنى أو الأعلى الذي لا يستطيع أن يقبل به.
هذا الأسلوب الذي قد يعده البعض بديهياً ليس كذلك، لأنه عبارة عن استخدام لمهارات شخصية واستراتيجية تفاوضية، ترسم بخط مستقيم، وتتطلب استعداداً مسبقاً، لنحدد نطاق موقفنا من الخيارات المتوقعة من دون أن نشعر الطرف الآخر بحقيقة موقفنا. وهذا يعني أن «الباتنا» الخاصة بنا سرية، لكننا إن نجحنا في معرفة «باتنا» الخصم، فإن ذلك سيصعب مهمته في التفاوض معنا. فمثلاً بعض الموردين يعرف تكلفة السلعة لدى عملائه، فيقدم سعراً عالياً يتحمله العميل المشتري.
وقد نجح روجر فيشر في استخدام هذا الأسلوب في مفاوضات السلام بمنتجع كامب ديفيد عام 1978، وفي مفاوضات تحرير الرهائن الأميركيين بسفارة بلادهم في طهران إبان الثورة الإيرانية، وقد سمعت الرئيس الإكوادوري السابق نفسه يقول إن هذا الأسلوب استخدم أيضاً في مفاوضات وطنية مصيرية في بلاده وفي غيرها بجنوب أميركا حلت مشكلات مستعصية.
شخصياً مارست هذا السلوك حينما كنت عضواً في لجنة الدائنين لشركة كبرى مدينة. وكنا نتفاوض نحن وحلفاؤنا من البنوك العالمية مع الشركة في نقاشات مضنية، تمتد إلى 10 ساعات في يوم واحد. فكنا قبل أن ندخل الجولة التالية من النقاشات المصيرية ضد الشركة المدينة، نحدد ما الحد الأدنى الذي يمكن أن نقبل به. ولا نذكره مطلقاً، ونجمع أكبر عدد ممكن من المعلومات عن أصول الشركة وأسعارها الحقيقية، ونحاول ألا نبني موقفنا أو أسعارنا على افتراضات من نسج الخيال. ولحسن الحظ؛ أظهرت دراسات عدة (قرأتها لاحقاً) أن ذلك كله يسهم في تقوية الموقف التفاوضي لأي مفاوض. وكان هدفنا حماية مصالح المساهمين.
مشكلة البعض مع «الباتنا» أنه يتسرع بقبول سعر أو مكسب لم يتوقعه، وينسى أن نطاق «الباتنا» للطرف الآخر ربما كان أعلى من هذا السعر بمراحل. من هنا، فإن إخفاء رد فعلنا مهم حتى يمكن أن نطلب أكثر من السعر أو المكسب الذي فاجأنا، لسبب بسيط؛ هو أن الآخر قد يكون أصلاً مستعداً للتجاوب، لأنه باختصار لا يعرف حدود نطاقنا التفاوضي أو «الباتنا». بعبارة أخرى؛ حينما لا يعرف من نتفاوض معه مدى قبولنا لعرضه، فإننا نفاقم حيرته، وقد نكسب أكثر بالتظاهر بعدم قبول العرض بوصفه إجراء تكتيكياً.
وينتهي مشهد التفاوض كله حينما يخطئ أحدنا فيقول في غمرة النقاش: «لن أدفع فلساً أو مليماً أو ريالاً واحداً فوق السعر الفلاني»، فينكشف أمرنا، علماً بأن البائع كان مستعداً لتقديم تنازلات أكبر!
[email protected]