خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

من وحي التراث

هذه واقعة جرت لي قبل عدة سنوات أن اتصلت بي سكرتيرة أحد كبار المسؤولين العرب وأبلغتني برغبة المسؤول في مقابلتي لتكليفي بكتابة تقرير مهم. وكنت عندئذ في أمس الحاجة إلى عمل، أي عمل يأتيني بلقمة عيش بعد أن شغلت نفسي وجل وقتي في المسألة الفلسطينية. في ذلك الزمن كانت قضية فلسطين لا تغني ولا تشبع من جوع. في هذا الزمن أصبحت منجماً للذهب مفتوحاً لكل من يغرف فيه. ولكن هذا كان طبعي المنحوس، أشتغل بالشيء عندما يؤدي للفقر وأتركه عندما يتحول إلى منجم للذهب.
ما سمعت بالدعوة حتى أسرعت لتلبيتها. لبست كل هدومي، كما يقال، وذهبت لمكتبه بساعتين قبل الموعد. جلست. وأثناء ذلك لاحظت سيارته الفارهة المرسيدس في الباب ورحت أتفرج على الأريكات المذهبة في الاستقبال والثريات الكريستال المتدلية من السقف. اقتادتني السكرتيرة إلى مجلسه الذي زادني ذهولاً على ذهول بفخامته. جلست على حافة الكرسي ولممت رجلي نحوي وتكتفت بكلتا يديّ، ومددت رأسي إلى الأمام لألتقط كل حرف يتفوه به المسؤول، غير المسؤول لأحد، يتفوه به الرجل الخطير.
بعد أن استفاض بذكر الموضوع، قلت له: هذا أمر يتطلب عدة أسابيع من البحث والكتابة والطباعة. ثم ذكرت له مبلغ الأجرة التي أتوقعها. ما إن فعلت ذلك حتى انتصب الرجل في كرسيه ونظر نحوي نظرة قاض ينظر لصبي متهم بسرقة علبة سجائر. قال: هذا ما لم يتوقعه مني. في الواقع إنه لم يتوقع أن أطالب بأي أجرة فهذا موضوع وطني ويهم كل مستقبل الوحدة العربية.
ما إن وصل إلى الكلمات الأخيرة وأنا في تلك الوضعية المنكمشة على الكرسي حتى خطر في بالي الإمام أبو حنيفة رحمه الله. لا أدري كيف ولماذا! ولكنني تذكرته عندئذ.
وتذكرت أنه كان مثلي يعاني من ألم في رجليه يجعله يمدهما أمامه. غير أنه في إحدى المحاضرات اضطر لسحبهما والجلوس بأدب واحترام عندما انضم إلى الحاضرين رجل مهيب بعمامة عظيمة ولحية كثيفة بيضاء رائعة. فحسبه الإمام أبو حنيفة من كبار العلماء، فلم رجليه باحترام واستمر في محاضرته حتى جاء إلى ذكر الإمساك في شهر رمضان المبارك فقال إنه يبدأ بعد طلوع الفجر وقبل شروق الشمس. هنا قاطعه الشيخ المحترم الزائر فقال متسائلاً: ماذا نفعل إذا أشرقت الشمس ولم يطلع الفجر؟
هنا ابتسم الإمام وقال كلمته الشهيرة: «لقد آن لأبي حنيفة أن يتمدد»، فمد رجليه وأخذ راحته.
حالما وصل السياسي الكبير ورجل الدولة الخطير إلى قوله إن علي ألا أتوقع أي أجر لأنه موضوع يهم الوحدة العربية، تذكرت حكاية الإمام أبي حنيفة فقلت لنفسي: لقد آن لأبو نايل خالد القشطيني أن يتمدد. فمطيت ظهري ومددت رجلي ووضعت الواحدة على الأخرى وأخذت راحتي.