TT

ترمب وبوتين... فيهما قولان

قادم جديد، وقديم متجدد. شهدت المعادلة الدولية منذ دخول الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، إعادة تكوين في أكثر من ركن من أركانها.
ترمب، كانت رحلته إلى البيت الأبيض نوعاً من سباق التتابع. مسابقة في الركض أطرافها من المحترفين وبعض الهواة. لم يكن على رأس قائمة المترشحين للرئاسة من الحزب الجمهوري، بل إن صقور الحزب وحمائمه اختلفوا حوله، كما لم يختلفوا على أي مرشح في الانتخابات الرئاسية السابقة. مع امتداد معركة الركض الانتخابية للحزب الجمهوري ارتفعت لياقته، وتجاوز الراكضين المنافسين؛ الواحد تلو الآخر.
منذ بداية الانطلاق، تسلَّح ترمب بتحديد أهدافه التي صاغ وسط متنها برنامجه الانتخابي، لكن عصا الحسم كانت تحديد الجمهور المتوجه إليه. أراد أن يخلق كتلة نوعية واحدة، وأن يتجاهل ما عداها. كتلة «المريدين» وليس «المؤيدين». المريد يرتبط عاطفياً ونفسياً بخيط شبه آيديولوجي مع زعيمه السياسي وليس عبر «تأييد» لبرنامجه الانتخابي فقط. رفع ترمب سقف الولاء المقدس للمصلحة الأميركية، لم يقل الولايات المتحدة الأميركية، بل قال: «أميركا أولاً». وعلى أساس ذلك بنى خطوط سياسته الخارجية. أعلن رفضه لمعاهدة «نافتا» مع الدول الأميركية المجاورة لبلاده. وأعلن برنامجاً متشدداً لمقاومة الهجرة غير القانونية إلى أميركا. واندفع بعيداً إلى حدّ بناء سور عال مع المكسيك. أعلن خروج أميركا من اتفاق باريس حول المناخ، لأنه كما يراه ليس في مصلحة بلاده، بل يلحق ضرراً اقتصادياً بأميركا، لأنه يحرم آلاف الأميركيين من فرص العمل. رفع صوته أمام شركائه في حلف الناتو طالباً منهم زيادة المشاركة المالية فيه.
الوصفة الانتخابية لحملة ترمب كانت مكثفة وساخنة، شدّت لها شريحة واسعة من الأميركيين. خطاب الحملة كان موجّهاً إلى قطاع تمّ اختياره بدراسة ووعي. تكوين اجتماعي بملامح ثقافية، ومواصفات مهنية وقدرات اقتصادية واسعة. اتجه ترمب إلى المواطن الأميركي الأبيض فقط دون غيره، لم يربك برنامجه أو خطابه بتعدد الشرائح المُستهدفة، «تكوين واحد» الأميركي الأبيض. لم ينشغل بآخر، لا الأميركي من أصل أفريقي أو لاتيني.
لغة الخطاب كانت من جنس الخطاب ذاته. لغة مهاجمة مجنزرة بقوة التوجه والمواجهة. لغة تعرف مستمعيها، تنسج معهم خيوطاً صلبة تربط جموع «المريدين» بالزعيم. المؤيدون يلتقون بمرشحهم في منتصف الطريق، المريدون لا توجد مسافة بينهم وبين الزعيم، لا توجد طريق، إنما التصاق مباشر بينهما.
لغة الجسد، حوّلها التلفزيون إلى قوة ترسل ذبذبات مكهربة إلى المريدين، كل واحد منهم يخلق لها شفرة مقدسة يعيد ترجمتها مرات ومرات. يكون جسد الخطيب حشداً من الألسن لا يقف عند الحديث المندفع الحار.
المناظرة بين جون كيندي ونيكسون، كانت المرة الأولى التي يكون فيها التلفزيون حلبة انتخابية، بل الجسم المضاف إلى المكونات الانتخابية الأميركية. برنامج المرشح يتحول إلى بضاعة في قالب إعلاني سياسي. المرشح المتحدث هو النجم الذي يسوق الإعلان ويصبح المتحدث المرشح جزءاً من البضاعة. قال كثير من المعلقين على المناظرة بين كيندي ونيكسون إن التلفزيون كان الكتلة الانتخابية المضافة التي حسمت المعركة لصالح كيندي.
دونالد ترمب، من مصارعي الشاشات، عمل فوق حلباتها ردحاً من الزمن، خبَر مسارب الوصول إلى المستهلك. هو أيضاً رجل الأعمال المتفوق، يذهب إلى حيث المغنم المالي، مستخدماً إشارات مرور عرفها وعرفته. هو إذن رجل الأقوال والأعمال، رجال السياسة الآخرون هم من فيلق الكلام.
ترمب، شخصيته جزء من برنامجه الانتخابي، ومنهجه في العمل السياسي. لكن هذه الصفة التي قدمته زعيماً يصطف ملايين المريدين البيض لانتخابه، هي التي تجعله يحول البيت الأبيض إلى حلبة صراع، لا يعرف هل يقف فوقها مصارعاً أو حكماً.
المصنع السياسي الأميركي معقد ومركب من حيث المشاركين فيه.. والمواد المستعملة تجعل القرار في أيدٍ متعددة، رغم أن النظام من الناحية الدستورية هو نظام يمتلك فيه الرئيس القرار النهائي. ترمب ورث القوة الأميركية السياسية والعسكرية والاقتصادية، لكنه حمل على كتفيه إلى قصر القرار ثقل ماضٍ يسكن فيه، إلى مطبخ أفرانه يحوم حولها مئات الطهاة. الكونغرس ليس حارساً يقف على باب من له صولجان السلطة، هو من يكتب قائمة ما يوضع على مائدة السياسة.
ترمب، الملاكم الأشقر، موجود في المطبخ وحول المائدة. الكثيرون يطوفون حوله لكنه يصارع، ويخلط مسار المعركة بتكتيك الحرب. يخسر ولا ينهزم. هو بسمارك وتشرشل.
الدنيا الجديدة، العولمة وما بعد الحرب الباردة، حلبتها المال وتوازن الحسابات، الصين رقم مصارع في الصناعة والسلاح والغموض الناعم. أوروبا الحليف الذي تمرَّد على التبعية لأميركا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، أرقام محسوبة فوق اللعبة على طاولة التوازنات، لكن روسيا تبقى السؤال المتحرك.
الرئيس فلاديمير بوتين، قيصر بلا سلالة، بلا حزب مؤدلج مسلح، ليس له ذقن لينين ولا شوارب ستالين، ولا يقف فوق دولة لها اسم طويل، لكن بين يديه الكأس التي بها عصارة كل ذلك الماضي. السلاح النووي، وحاملات الطائرات، والتحالفات الدولية، وآبار نفط تضخ ملايين البراميل يوميّاً. الكرملين ليس مجرد مبنى مزخرف ينطق بالعظمة الروسية، لكنه قلعة السحر الأسطوري الذي امتد عبر القرون. من يجلس على هام القرار فيه يسكن مع القياصرة وزعماء الاتحاد السوفياتي ويسكنون فيه.
مثلما أشعل ترمب جذوة أميركا في نفوس همدت، تصالحت مع حقيقة مرَّة، وهي أن يحكم أميركا رئيس من أصل أفريقي والده اسمه «حسين»، استطاع بوتين أن يقرع جرس الحسرات الكامنة في قاع الوعي الروسي؛ أن يهمس في أذن الدب التائه: روسيا القوية ما زالت فوق حلبة الصراع، ولها اللياقة. سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي مهندس خرائط روسيا الجديدة، هو ضابط إيقاع حركة روسيا العظمى دوليّاً، كيسنجر الآخر في عهد ما بعد الحرب الباردة، وبوتين يتقن لغة خطوط الطول والعرض على خريطة دنيا يُعاد رسمها بأقلام مدرعة بالسلاح المجنزر والناعم. تواجه الرئيس الأميركي الأسبق والزعيم السوفياتي خورتشوف الذي زامنه في أزمة الصواريخ بكوبا، وقف العالم على شفا مواجهة نووية بين القوتين. حزم كيندي وانفعال خورتشوف صنعا مسرباً إلى المخرج.
قولان: الأول: أزمة القرم وأوكرانيا، وسوريا، وصواريخ حلف الأطلسي في شرق أوروبا، وسخونة الشرق الأوسط، هل تدفع القوتين إلى مواجهة؟
الثاني: رفع وتيرة الاعتزاز الوطني في البلدين روسيا وأميركا، هل يشعل حرباً نصف ساخنة؟
سياق الخلاف يشي بحرارة المواجهة، لكن تمنطق الطرفين بحزام الذات الوطنية، هو البرزخ الذي يخطُّ الفاصل الذي يشعل العقل.