في وقت باتت الإجراءات التي اتخذتها الأطراف الخارجية تحدد مسار الصراع في أكثر من منطقة سورية، فإن انعدام اتخاذ الإجراءات، أو صنع القرارات من قبل الدول الخارجية، أصبح هو المحدد الأمثل لمصير محافظة إدلب.
وبعد انقضاء 6 أعوام، كانت تتصرف خلالها بصورة براغماتية جادة وصارمة، بدأ المخطط الاستراتيجي لـ«جبهة النصرة» في الاقتراب من مراحله النهائية. وبعد تدمير أو إخضاع كل المنافسين المحتملين على الأرض، تحاول الجماعة التي بات اسمها «هيئة تحرير الشام» استغلال سيطرتها العسكرية في محافظة إدلب، بغية ضمان إنشاء هيئة الإدارة المدنية بالمحافظة تحت هيمنتها المباشرة.
وفي حال حصلت «هيئة تحرير الشام» على التأييد الكافي لهذه المبادرة، تكون حققت انتصاراً كبيراً لمشروعها المتطرف داخل سوريا، وكأن ذلك من الأهداف التي طالما تحدثت عنها «جبهة النصرة» ومنذ فترة طويلة، باعتبارها الخطوة الضرورية السابقة على إعلان «إمارتها» في المحافظة. ورغم أن أغلب الشخصيات المعارضة البارزة في سوريا تواصل الاعتراض الشديد على احتمالات إقامة الإدارة المدنية التابعة لـ«هيئة تحرير الشام» في إدلب، فمن الصعب التغافل عن الحتمية المرجحة لاستحداث هذه الإدارة في مرحلة ما من المستقبل المنظور. في كل الأحوال، من يستطيع في إدلب ويملك الإرادة أو القدرة على التدخل وإفساد الأمر على «جبهة النصرة»؟ ومن في الخارج لديه المصلحة في الحيلولة دون تشكيل هذه الإدارة، في حين أن تشكيل الإدارة المدنية في حد ذاته سيوفر الذرائع اللازمة للتدخل؟
لا يمكن التهوين من أو إضاعة المكاسب التي حققتها «هيئة تحرير الشام» بصورة مطلقة، لكن لا يزال من الممكن اعتراض سبيل هذا التنظيم من تحقيق ما سيشكل أكبر الانتصارات التي أنجزها في تاريخه. ورغم تاريخ «جبهة النصرة» الممتد من التنسيق مع أطراف المعارضة السورية المختلفة في ميدان المعركة، فإن الديناميات الجيو - سياسية الناشئة والمتطورة قد دفعت خلفاء الجماعة (أولاً جبهة فتح الشام، ثم الآن هيئة تحرير الشام) دفعاً نحو التصرف بطريقة شديدة العدائية خلال عامي 2016 و2017، وبالتالي تآكل كتلة الثقة التي حققتها الجماعة عبر السنوات المنقضية. واليوم، تعد «هيئة تحرير الشام» أبعد ما تكون عن الاضطلاع بدور الممثل الشعبي ضمن تيارات المعارضة السورية السائدة، لكنها رغم ذلك من اللاعبين المؤثرين الذين فرضوا قوتهم الغالبة على الأرض، واستدعت وفقا لذلك الإذعان التام في كثير من الأحيان.
كان استعداد تيارات المعارضة السورية التام للتعاون مع «جبهة النصرة» هو كأس السم الذي ألحق الأضرار الفادحة والعميقة بالقضية الثورية السورية، وأكثر مما أضر بها أي عامل آخر. ومع مرور الوقت، كان ذلك التاريخ من التعاون يعني أن الكتلة الحرجة من المقاتلين قد أعرضوا وببساطة عن المواجهة المفتوحة مع «جبهة النصرة» أو أي من خلفائها. واليوم، يقف المزيد من السوريين، وأكثر من أي وقت مضى، موقف المعارض المباشر لـ«هيئة تحرير الشام»، لكن يفتقرون إلى المقدرة على مواجهة الجماعة وقوتها المتضخمة التي لا نظير لها. غير أن ذلك لا يعني بالضرورة فقدانهم الرغبة في ذلك. وكما قيل من قبل، فإن مكافحة نفوذ تنظيم «القاعدة» المتفشي في سوريا ليس مجرد مغامرة عسكرية - بل يتعين تأطيره ككفاح متواصل لتجاوز نفوذ التنظيم المستشري عبر إيجاد البدائل الأكثر جاذبية من الناحية الآيديولوجية، والأفضل تمثيلاً من الناحية الاجتماعية.
تباهى أنصار «هيئة تحرير الشام» في الآونة الأخيرة بأن الجماعة حصلت على تعهدات بدعم مشروع الإدارة المدنية من أكثر من 70 مجلساً محلياً موزعاً على طول وعرض محافظة إدلب. ورغم ذلك، ما الذي خشوا من الكشف عنه بأن العديد من هذه المجالس المحلية قد اقترحوا دعم المشروع في مقابل موافقة «هيئة تحرير الشام» على حل نفسها. وبالإضافة إلى ذلك، فإن أغلب المجالس المحلية الكبيرة المنتخبة في إدلب - في مدينة إدلب، وسراقب، ومعرة النعمان، وجرجناز - رفضت تماماً تأييد مشروع «هيئة تحرير الشام»، في حين رفضت الحكومة المؤقتة المعارضة و«الائتلاف الوطني السوري» و«الجيش السوري الحر» و«درع الفرات» والكثير من الجهات والشخصيات البارزة المشروع رفضاً باتاً. وليس من شأن حملة التشكيك واسعة النطاق تلك أن تردع «هيئة تحرير الشام» عن مواصلة تحقيق أهدافها. ولا شك أن هجوم «هيئة تحرير الشام» على المجلس المحلي لمدينة إدلب في 28 أغسطس (آب) الجاري خير دليل على ذلك. ومع ذلك، فإن هذا الواقع يؤكد من دون شك أن نجاح «هيئة تحرير الشام» لن يتمتع بشعبية تُذكر.
ومع ذلك، فإن بعض الشخصيات السورية البارزة والمعنية بصفة ذاتية بنوايا «هيئة تحرير الشام» في محافظة إدلب، يتبنون وبأيادٍ مفتوحة مبادرة الإدارة المدنية المقترحة من الهيئة، ولكن لماذا؟ كما أفضى لي بعضهم مؤخراً، فإنهم يعتقدون أن غالبية أعضاء «هيئة تحرير الشام» ليسوا على القدر المعتبر من الأهمية، لكن الأقلية المكونة لقلب «الهيئة» هي الفئة المستحقة للقلق والخطورة. وقالت لي الشخصيات السورية النافذة إن أفضل السبل للحد من سلوكيات المتطرفين الملتزمين هو عن طريق التفاعل المباشر مع «الهيئة»، ومحاولة دمج، واستيعاب «الهيئة» في جهات وتنظيمات معارضة أكبر، وتمكين المبادرات المدنية التي تستند إلى التأييد الشعبي الحقيقي لتحقيق النجاح. وكان ذلك بالضبط هو المنطق نفسه الذي اعتمده الكثير من الناس في محاولاتهم تشجيع «جبهة النصرة» على إعادة التسمية إلى «جبهة فتح الشام» في صيف عام 2016، وينبغي أن يكون من الواضح الآن أن هذا المنطق قد أثبت فشله؛ فلقد تحولت «جبهة فتح الشام» لأن تكون تنظيماً أكثر ثقة وفاعلية حيال تيارات المعارضة السورية من «جبهة النصرة» قبل إعادة التسمية.
واليوم، فإن القرار العاجل اللازم اتخاذه يقع على عاتق المعارضة السورية: ألا وهو رفض مبادرة الإدارة المدنية المقترحة من جانب «هيئة تحرير الشام»، أو المخاطرة بالإقصاء التام من جانب المجتمع الدولي، بين الانضواء تحت قيادة سياسية ومدنية وعسكرية تمثيلية وموثوقة، أو الانتظار لمشاهدة مختلف عناصر المعارضة الثورية ينشقون أو يستسلمون، أو يلتحقون بصفوف الجماعات المتطرفة في شكل جماعي أو فردي.
وبات المجتمع الدولي المتحضر هو الآخر يشهد خياراً من الخيارات: ما بين حماية وتعزيز عناصر المعارضة السائدة في شمال سوريا الذين يمثلون مختلف طوائف الشعب، أو التخلي عنهم ليواجهوا مصير الهوان والتلاشي ثم يحل المتطرفون محلهم، والذين يعتبرون من الغرب في لندن وباريس أو واشنطن ألد الأعداء وأقسى الخصوم.
يجب على صناع السياسات النظر لما هو أبعد من الواقع القريب وما بعد المدى القصير. فليس من أحد يعارض حقيقة أن «هيئة تحرير الشام» هي اللاعب الكبير المهيمن على مسرح الأحداث في إدلب اليوم. ولكن على نحو مماثل، لا يجب على أحد الاعتراض أن عكس هذا الواقع يستلزم التدخل العسكري بالطائرات والصواريخ. وإن تُركت إدلب لمواجهة المصير الذي يتخيره نظام الأسد بصحبة روسيا وإيران، فالنتيجة الحتمية معروفة ومجربة: أن التأييد الشعبي لـ«هيئة تحرير الشام» سيفوق كل التوقعات ارتفاعاً وليس انخفاضاً. فهل من المنطقي متابعة السياسة التي تعزز وتؤيد دعاوى الأعداء من الإرهابيين؟ هل يعتقد أي سياسي جاد أن تحالف «روسيا - إيران - حزب الله - الأسد» سيحقق السلام والاستقرار في محافظة إدلب؟ وهل يعتقد أي شخص فعلاً أن المعارضة السورية لن تدرك أن الحملة النهائية للقصف الروسي في إدلب لن تكون ممكنة إلا إذا غض «أصدقاء سوريا» الطرف عامدين عما يجري هناك؟
إن إرهاب المتطرفين ليس بالأمر الذي تسهل هزيمته بالأسلحة العسكرية وحدها. وإن أردنا أن نحظى بأي فرصة حقيقية لمواجهة جماعة مثل «هيئة تحرير الشام»، علينا وضع، وحماية، وتمكين البديل الاجتماعي السياسي الفائق والمضاد للخطاب المتطرف حتى يقضي عليه ويحل محله. وشركاؤنا المحتملون في هذا المسار ليسوا من الغرباء - فلقد ساندتهم حكوماتنا لمدة 6 سنوات حتى الآن. وإن قررنا التخلي عنهم الآن، فإننا نضمن فقط المزيد من الموت والدمار وعدم الاستقرار، ومما يؤسف له، المزيد من الإرهاب كذلك. إن مثل هذه الجهود تستغرق وقتاً طويلاً، وموارد هائلة، ومقداراً لا يستهان به من المخاطر، ولكنها قد تكون الفرصة الأخيرة الأكثر ملاءمة من مغادرة إدلب تواجه مصيرها الراهن وحدها.
* زميل ومدير قسم مكافحة الإرهاب بمعهد الشرق الأوسط
* خاص بـ«الشرق الأوسط»