سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

واشنطن تنصح الأكراد بالشيء وعكسه

على مدى أسبوعين مضيا، كان الملف الكردي طافياً على سطح المانشيتات في الصحف، وكانت أطراف غير كردية كثيرة تنصح مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، بأن يؤجل الاستفتاء على الاستقلال عن العراق، الذي حدد له موعداً في الخامس والعشرين من سبتمبر (أيلول) المقبل، ولا تزال الأطراف نفسها تنصحه!
كانت النصيحة الأولى من جيمس ماتيس، وزير الدفاع الأميركي، التي بذلها لبارزاني عندما ذهب إلى زيارة للإقليم، قادماً من زيارة إلى بغداد، وكانت الثانية من مولود جاويش أوغلو، وزير الخارجية التركي، الذي وصف خطوة الاستفتاء خلال زيارة إلى العاصمة العراقية، بأنها الخطوة الخطأ، ولأن برنامج زيارته إلى العراق كان يتضمن بغداد وأربيل معاً، فالمؤكد أنه عندما طار إلى الثانية، قد بذل النصيحة ذاتها للقيادات الكردية، وفي المقدمة منها رئيس الإقليم بطبيعة الحال!
ولم تختلف نصيحة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، عن سابقتيها، حين أنهى محادثات له مع ماتيس، الذي انتقل من زيارة العراق إلى زيارة لأنقرة!
ومن قبل كانت على الطريق نصائح أخرى ظل بارزاني يسمعها، كلما فتح الملف مع مسؤول من داخل منطقة الشرق الأوسط، أو من خارجها، ولكن النصائح الثلاث كانت الأبرز، وكانت كلها.. الثلاث وغيرها.. تقر بأن الأكراد يواجهون مشكلات مع الحكومة المركزية في العراق، بقيادة حيدر العبادي، وحتى من قبل مجيء العبادي، ولكن الوصول إلى حل لهذه المشكلات لا يعني بالضرورة، الذهاب إلى الاستقلال، لأنه من الجائز جداً أن يواجه الأكراد بعد الاستقلال، إذا جرى الاستفتاء في موعده، وإذا جاءت نتيجته بالموافقة، ما لم يتوقعوه، وما لم يتحسب له كل كردي!
لقد قرأت لرئيس الإقليم في هذه الصحيفة، أن جوزيف بايدن، نائب الرئيس الأميركي السابق قال له العبارة التالية: سوف نرى نحن الاثنين دولة كردستان خلال حياتنا!
لا أعرف.. ولكن إذا كان القصد أن الأميركان يباركون قيام الدولة الكردية، فالأميركان أنفسهم عادوا من خلال وزير دفاعهم شخصياً، ينصحونه بالعكس تماماً، بما يعني أن عبارة بايدن كانت لها ظروفها التي انتهت!
إنني مؤمن بأن موضوع الأكراد في العراق، هو قضية بين بغداد وبين أربيل، فبينهما وحدهما يجب أن يدور النقاش، وأن يصل الطرفان إلى نتيجة مُرضية لكليهما، وأن يبذل كلاهما جهداً حقيقياً في اتجاه تذليل أي عقبة في الطريق، وأن يذهب إلى طاولة النقاش بنفس صافية، وولاء للعراق يسبق الولاء لأي شيء سواه، لأن مثل هذا الولاء الذي يسبق، هو المظلة التي تحمي الطرفين، وتوفر لكل طرف منهما، ما توفره للآخر دون نقصان، أو هكذا يفترض كل محب للعراق ويريد.
لست سعيداً على كل حال، بما قاله الوفد الكردي الذي زار بغداد، عن أن محاولات المسؤولين فيها لإقناع الإقليم بتأجيل الاستفتاء، كانت غير كافية، فلقد كان على مسؤولي بغداد أن يكرروا المحاولة، مرة، ومرتين، وثلاثا، وعشر مرات، لأن القضية تستحق، ولأنهم هم الطرف المشكو منه، ولأنهم هُم أصحاب اليد العليا، بحكم أنهم العاصمة المركزية، ومن شأن العاصمة التي تحمل هذه الصفة، أن تقرب الأقاليم إليها طوال الوقت، وأن تذهب هي إلى الإقليم.. أي إقليم.. قبل أن يأتي هو إليها، أو إلى غيرها شاكياً!
لست سعيداً لأن العلاقة التي لا بد أن تقوم بين كل عراقي في بغداد، وكل عراقي في أربيل، هي علاقة المواطنة دون غيرها، وليس لكلمة المواطنة من معنى سوى أن كل عراقي، أياً كان موقع إقامته في الدولة العراقية، وأياً كان مذهبه، وأياً كان دينه، وأياً كان.. وأياً كان.. له في كل أحواله، ما لكل مواطن آخر، وعليه ما عليه.. إنها كلمة ساحرة، لأنها بتركيبتها، وبحروفها، تجعل الوطن هو الأرضية التي يقف عليها الكافة، فلا تميل من فوقها إلى هذا المواطن لسبب، ولا تميل على ذاك لسبب آخر.. المواطنة إذا أخذناها ملاذاً، وإذا لجأنا إليها تفادياً لكل دعوات التفرقة بين أبناء الوطن الواحد، كفيلة بتقديم الدواء، وقادرة قبل تقديم الدواء، على بث الطمأنة الكافية في قلوب كل مجموعة تشعر بأن وطنها ضاق بها، وتريد أن تفارقه!
ولو كانت المواطنة مبدأ قائماً في علاقة بغداد بأربيل، ما كان بارزاني قد قال في لقاء له مع اتحاد النقابات النسائية والشباب والطلبة، في كردستان، إن بديل الاستقلال هو القبول بأن تحكم بغداد الإقليم... إن أي قارئ لهذه العبارة على لسان الرجل سوف يتساءل في حيرة: وماذا في أن تحكم بغداد، إقليماً هو في الأول وفي الآخر، من بين إقليم الدولة العراقية؟!.. اللهم إذا كان حكمها غير عادل، فهذا هو ما لا يقرها عليه أحد، وهذا هو ما يتعين عليها أن تسارع إلى العدول عنه، لتكون عاصمة عادلة وهي تتعامل مع أقاليم الدولة، خصوصاً إذا كان أبناء الإقليم لديهم في حالة مثل حالة كردستان، إحساس تاريخي بالظلم غير المُبرر!
لقد نقلت «الشرق الأوسط» صباح الخميس الماضي في صدر صفحتها الأولى، عن كفاح محمود، المستشار الإعلامي في مكتب رئيس كردستان، قوله، إن الاستفتاء لن يجري تأجيله دقيقة واحدة، إلا إذا كان لتأجيله بديل مكتوب، يحدد موعداً آخر للاستفتاء، ويحترم نتائجه، على أن تكون الأطراف الأساسية حاضرة فيه، وقد حدد الأطراف التي يعنيها بأنها بغداد، والولايات المتحدة، وتركيا، وإيران.
إنني أُقر بأن الأكراد العراقيين عانوا في أكثر من مرحلة، من مراحل الحكم في العراق، وأعرف أنهم سمعوا من قبل كلاماً كثيراً، ولم يجدوا فعلاً على الأرض يُصدّق الكلام، وإلا ما كانوا قد طالبوا ببديل «مكتوب»... ولذلك فالرهان هنا على حكماء العراق، من أول العبادي، ومروراً بمقتدى الصدر، وانتهاء بالسيستاني.. فهؤلاء الثلاثة أشعر مما يقولونه في مناسبات مختلفة، أن العراق عندهم يظل أولاً، وعاشراً، وأنه لكل أبنائه دون تمييز لأي سبب... وأريد أن يشعر كل عراقي كردي بمثل ما أشعر به، لأنه لا شيء أبقى للمواطن في بلده من الوطن الواحد.