«أبو ناجي» هو اللقب الذي يطلقه العراقيون على إنجلترا والإنجليز. كل ما يجري على الأرض ينسبونه لأبو ناجي. ومن ذلك أن أبو ناجي مسؤول عن مقتل الملك غازي. يقولون كيف يموت وهو ملك، بانقلاب سيارته؟ كلا إنهم الإنجليز دبروا انقلاب السيارة. أصبح ذلك من المعتقدات التي أودت بكثير من الناس إلى السجن.
بعد سنوات قليلة ابتليت أرملته الملكة عالية بالسرطان. وبعد العمليات الجراحية التي أجريت لها في لندن أعيدت إلى بغداد برعاية الطبيب الإنجليزي دكسن فرث. ولكن صحتها ظلت تتدهور، واتضح أنها كانت في طريقها للقاء ربها.
بادرت السفارة البريطانية فأشارت على الدكتور فرث أن يترك العراق فوراً ويعود من حيث أتى، قبل أن يحمّله العراقيون مسؤولية مرضها وموتها. كان الإنجليز على علم باعتقاد العراقيين أن الطبيب الإنجليزي الذي عالج ضاري، بطل الثورة العراقية لإصابته بالمرض نفسه، قد ضربه بإبرة قتلته. وإلا كيف يموت بطل الثورة من دون تدخل أبو ناجي؟
رحل الدكتور فرث في ليلة سوداء إلى لندن، وترك الملكة عالية برعاية الدكتور كمال السامرائي. وقد روى الدكتور السامرائي شيئاً من ذكرياته عن تلك المهمة في مجلة «آفاق عربية».
كأي مريض لا يرجى شفاؤه، تشبثت الملكة عالية تشبث الغريق بالقش، بأي شيء يمكن أن ينجيها من المصير المؤلم، فعمدت هي وأسرتها الملكية إلى تجربة أي شيء سمعوا به من باب المعجزات. ويظهر أن عدداً من نصارى بغداد ذكروا لها ماء لوردز. وهو عين معدنية في جنوب فرنسا، يعتقد أبناء المذهب الكاثوليكي بالقدرة الخارقة لمياهها في إشفاء المرضى الميؤوس منهم. ويرون في هذا الصدد كثيراً من المعجزات والحكايات القدسية في شأنه. ويزور ألوف منهم سنوياً هذه العين للتبرك والشفاء منها.
بادرت حاشية الملكة إلى تكليف الدكتور الباججي، وكان وزيراً للصحة كما أتذكر، بالسفر إلى فرنسا وجلب كمية من ماء هذه العين. عاد الدكتور بعد بضعة أيام بنزف من ماء لوردز، ونقله فوراً من المطار إلى قصر الزهور الملكي، وأسرع به إلى غرفة الملكة المريضة. وهمّ بفتح الزق ليعطيها قدحاً من مائه. ولكن لسوء حظه، أو حظ الملكة كان في الغرفة بين جمهور عوادها نوري السعيد، ثعلب السياسة العراقية والرئيس المزمن لحكومتها. مسكه من يده وأوقفه وسأله ما هذا؟ فأجابه الدكتور الباججي إنه ماء لوردز وشرح له الحكاية.
قال له الثعلب العجوز لا تعطها قطرة واحدة منه قبل أن نحيله إلى المستشفى الملكي، ليجروا عليه فحصا دقيقا ويتأكدوا من سلامته. ثم أضاف قائلاً من باب التفسير: ما أعطينا زوجها الملك غازي أي شيء، ويتهموننا بقتله. تريد الآن أن تسقي الملكة ماء لوردز وتموت ويسمع الناس أننا أعطيناها هذا الماء! ما راح نخلص من كلامهم ليوم القيامة!
وهكذا منع نوري السعيد الملكة عالية من شرب ماء لوردز. والغريب أنني لم أسمع بعد عن عراقي يتهم الحكومة والإنجليز بأنهم قتلوا ملكتهم، بمنعها من شرب هذا الدواء الفرنساوي.
8:49 دقيقه
TT
كله من أبو ناجي!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة