د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

في شأن الذي جرى في شارلوتسفيل

قبل سنوات كثيرة دعاني الدكتور ويليام كواندت، أستاذ العلوم السياسية في جامعة فيرجينيا، بمدينة شارلوتسفيل؛ لكي ألقي محاضرتين عن الشرق الأوسط وجماعة «الإخوان المسلمين». كانت الفقرة الأولى من الزيارة تدور حول الجامعة التي أسسها وبناها توماس جيفرسون شخصياً الذي وضع إعلان الاستقلال الأميركي، واشترك في وضع دستور الولايات المتحدة، وأصبح فيما بعد الرئيس الثالث للولايات المتحدة.
كانت لمسات الرجل وتصوراته وعلمه ورؤيته، تكاد تلمسها في كل أركان المؤسسة التي لم تكن تعكس اهتماماته وأفكاره الليبرالية فقط؛ وإنما أيضاً هوية المدينة ذاتها التي تمحورت حول المؤسسة الجامعية، وروح من أقامها.
وعندما جرى ما جرى خلال الأسبوع الماضي، وقفزت من خلاله المدينة إلى مقدمة الأحداث العالمية؛ لم يكن هناك بد من استدعاء الماضي، وما تبقى في الذاكرة من نقاشات مع الأساتذة، والتعجب من المآل الذي وصلت إليه الأحوال في الولايات المتحدة الأميركية.
أحداث شارلوتسفيل ربما لم تكن لتحقق ذلك القدر من الرنين؛ لولا أن روح جيفرسون ظللتها، فكيف يمكن لمدينة جاء منها وعاش فيها وأقام جامعتها، أن تنتهي بها الحال إلى مسيرة احتجاج تجمع فيها النازيون و«المتفوقون البيض» و«الكلو كلوكس كلان» وجماعات عنصرية أخرى؟ وما الذي في مدينة أميركية غربية وليبرالية أيضاً، لتنتهي فيها المسيرات السياسية إلى توليد مسيرة احتجاج مضادة من الليبراليين المكافحين للعنصرية، فيكون هناك صدام يظهر في قيام جيمس فيلدز، صاحب العشرين عاماً، والقادم من ولاية أوهايو، بقيادة عربته والدخول السريع وسط جماعة الاحتجاج المضاد، فيقتل امرأة ويجرح تسعة!
ويبدو أن الأيام التعيسة لها من النحس بعض إضافي، حينما سقطت طائرة هليكوبتر تابعة لبوليس الولاية، وكانت تقوم بمراقبة المسيرات، فإذا بها ترتطم بالأشجار وتسقط ويموت قائدها وملاحها، فيصير القتلى ثلاثة. ربما يكون ذلك بمعايير الشرق الأوسط لا يستحق كثيراً من الاهتمام، ولكن ذلك بالمعايير الأميركية يؤدي إلى صدام آخر بين الرئيس دونالد ترمب ومعارضيه من حزبه الجمهوري ومن خارجه الديمقراطي، والإعلام والمثقفين.
يقال دائماً إن الأحداث العنيفة إما إنها منشئة أو إنها كاشفة، وحادثة شارلوتسفيل لا يمكن إلا اعتبارها كاشفة، فمسلسل الحدث يعكس نمطاً متكرراً في مدن أميركية أخرى. فالبداية كانت قيام مجلس المدينة باتخاذ قرار بإزالة تمثال الجنرال روبرت لي، قائد قوات «الكونفيدرالية» الجنوبية، فكانت المسيرة الاحتجاجية الأولى؛ أما المسيرة المضادة فكانت ممن يريدون إزالة التمثال؛ لأنه يعبر عن جنوب أذاق السود الأميركيين سوء العذاب؛ دفاعاً عن استمرار العبودية والعبيد.
كانت الحرب الأهلية الأميركية تبرز من جديد، ليس على طريقة القرن التاسع عشر، وإنما على طريقة القرن الحادي والعشرين. فالمسيرة الأولى رأت أنه لا يمكن دفن التاريخ الأميركي، فالجنرال «لي» قاد شعباً بأكمله دفاعاً عن قضية ما، وهو قبل الحرب الأهلية كان من قادة الجيش الأميركي في حربه ضد السكان الأصليين؛ دفاعاً عن المهاجرين البيض. هو شخصية وطنية إذن ولا تستحق تماثيله تلك الحالة من المطاردة، سواء حدث ذلك في شارلوتسفيل أو كما جرى بعد ذلك في مدينة بالتيمور، بينما راحت مدن أخرى تنزع وتطارد الأعلام الكونفيدرالية، ومعها ما انتشر من تماثيل لمن حاربوا في جانبها.
مسيرة الاحتجاج المضادة لخصت المسألة كلها، في أن العنف الذي يجري حالياً ارتكابه في المدن الأميركية ضد المواطنين من أصول أفريقية، إنما يعود إلى أن رموز الكونفيدرالية المعادية لتحرير العبيد تنتشر في البلاد طولاً وعرضاً، وكأنما تظلل أفكاراً وأحلاماً عنصرية.
الواقعة كشفت عن أن الانقسام الأميركي حول دونالد ترمب، لا يعبر فقط عن معركة انتخابات رئاسية لم تنته قط، وإنما لا يبدو أنها سوف تصل إلى نهاية في المستقبل القريب. وبشكل ما، فإنها تبدو قادرة على التشكل في صراع على إزالة قانون أوباما للرعاية الصحية، وإحلال قانون آخر محله، أو تظهر في شكل إحياء للحرب الأهلية الأميركية. فليس خافياً على أحد أن الأميركيين الأفارقة قد صوتوا بأغلبية كبيرة لصالح هيلاري كلينتون؛ كما أنه ليس خافياً على أحد أن كافة أنصار المنظمات العنصرية الأميركية صوتت لصالح دونالد ترمب. ومن ناحيته فإنه كان متلعثماً في دفعها بعيداً عنه، وهذه المرة في شارلوتسفيل فإنه لم يتأخر كثيراً في إدانتهم فقط، وإنما دافع عن مواقفهم من التاريخ الأميركي، على أساس أن الجنوبيين لم يكونوا وحدهم الذين حافظوا على نظام العبودية، وإنما كافة المؤسسين للدولة الأميركية، بمن فيهم جورج واشنطن، وتوماس جيفرسون، كان لديهم عبيد.
ما يحدث حالياً في الولايات المتحدة من خطوط انقسام متصاعدة، لم تحدث منذ ستينات القرن الماضي، عندما انقسمت أميركا حول حرب فيتنام ومعها حركة الحقوق المدنية، فكان الاغتيال للرئيس كنيدي، ولم يجدد الرئيس جونسون لولاية ثانية، وأجبر الرئيس نيكسون على الاستقالة، ولم يستقر الرئيس فورد أو الرئيس كارتر لأكثر من فترة ولاية واحدة. رونالد ريغان أعاد الاستقرار لأميركا رغم محافظته الشديدة في سياسته الخارجية، وفي مشروعه الاقتصادي، ولكنه كان ليبرالياً في السياسة والمجتمع. بوش الأب، وكلينتون، وبوش الابن، ساروا على المنوال نفسه، وانتصرت الليبرالية في الولايات المتحدة، كما بدا أنها انتصرت في العالم كله.
ولأن التاريخ لا يستقر على حال، وهناك دائماً الإحياء لما كان؛ فإن الانتصار ذاته ربما كان هو الذي مهد الطريق لفوز ترمب، عندما التف حوله كل من عرفوا باسم «القوميين البيض» الذين كانت تعبيراتهم السياسية على هامش خريطة السياسة الأميركية، فإذا بهم في دورة رئاسية واحدة على الأقل ينتقلون إلى قلبها. وبات السؤال الآن: هل هذه هي لحظة مؤقتة في التاريخ الأميركي؛ أم إنها لحظة لها امتداداتها في المستقبل؟
الليبراليون لا يوجد لديهم شك في أن ظاهرة ترمب لا تزيد عن كونها جملة اعتراضية على تدفق «العولمة»، والتغييرات العميقة التي تجري في العالم نحو الحرية السياسية والاقتصادية، والمساواة بين بني الإنسان. والمحافظون يرون أن الليبرالية انكسرت، ليس فقط في أميركا، وإنما في بريطانيا أيضاً، حينما خرجت من الاتحاد الأوروبي، وكان «البريكست» انقساماً سارياً في أكثر من دولة، وفي بولندا والمجر توجد تعبيرات مماثلة ضد الهجرة الأجنبية وضد اللاجئين، فالعالم لم يكن واحداً أبداً، ولن يكون.
شارلوتسفيل كانت مشهداً ولحظة كان فيها ما فيها من صدام، لا يعبر فقط عن مكوناته، وإنما أكثر من ذلك عن مكونات عالم منقسم؛ ولا يبدو فيه من الساسة من يستطيع رأب الصدع.