عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

اقتراح مجاني

كارثة تصادم القطارين شمال الإسكندرية ليست الأولى ولا أعتقد أنها ستكون الأخيرة لقصور صيانة المواصلات وثقافة الإهمال في الحياة العامة.
في رحلة عام 1949 بصحبة الراحل جدي من الإسكندرية إلى القاهرة في ديوان السكوندو (بخلاف الترسو العادية بمقاعد خشبية كانت عربات الدرجتين الأولى - البريمو - والثانية - سكوندو - مكونة من مقصورات بباب من جرار، وأريكتين متقابلتين من الجلد المنجد؛ على الجدران مرآتان وصور للآثار المصرية وأباجورات إضاءة).
اشتكى جدي لساعي الخدمات (بملابسه الأنيقة وطربوشه) الذي قدم الماء المثلج للركاب بتعطل أحد الأضواء الستة. بعد عشر دقائق وصلنا محطة سيدي جابر، فصعد ناظر المحطة بالبذلة الأنيقة والطربوش ليعتذر للركاب. وبينما وزع على المسافرين الأربعة في الديوان «كوبون تخفيض 50% مقابل الإزعاج» وناولني قرص شوكولاته بغلاف ذهبي عليه التاج ولوغو مصلحة السكة الحديد، استبدل عامل الصيانة المصباح.
وقف الأفندي ناظر المحطة الأنيق وابتسامة تحت شاربه «المبروم» بالشمع، موضة الملك فؤاد ملوحاً لنا من نافذة القطار المتحرك.
كان من يتقاضى أجراً، سواء كان طبيباً أو عامل صيانة أو جامع قمامة يتفاخر بأداء عمله بإتقان ويعتذر للمستهلك أو راكب القطار على أي تقصير كمصباح مطفأ، في زمن سموه «العهد البائد» (عصر نهضة مصر، ودستور 1923 وأحمد لطفي السيد، وطلعت حرب، ومكرم عبيد، وسعد زغلول باشا ومصطفى النحاس).
وكانت الصيانة والنظافة وتحمل المسؤولية من خيوط نسيج الشخصية المصرية في الحياة العامة. موظف البنك، وساعي البريد وسائق سيارة الإسعاف يؤدي عمله بقدسية العبادة ويحافظ على مظهره سواء البذلة أو اليونيفورم كواجهة لمؤسسته أو مصلحته الحكومية أمام المواطن. ناظر محطة القطار في أناقة جدي صاحب اللقب الرسمي، والبائعة في محل «شيكوريل» في أناقة الهانم جارتنا في ديوان القطار (كانت كنجمة هوليوود ريتا هيوارث في أنوثتها ومظهر الشخصية). عامل الصيانة والساعي النوبي (الذي أسرع بإبلاغ وكيل محطة الإسكندرية ليبلغ ناظر محطة سيدي جابر في دقائق) كانا في قمة الأناقة ويؤديان عملهما بالجدية نفسها التي يعمل بها مهندس حركة الملاحة في ميناء الإسكندرية.
عودة إلى الحاضر (رغم أننا لا نريد استباق الأحداث قبل انتهاء التحقيق) وحادث اصطدام إكسبريس القاهرة/ الإسكندرية بقطار بورسعيد نتيجة إهمال أو في أفضل الأحوال «خطأ بشري».
قطار تعطل أو انتظر في شارة معطلة في طريق إكسبريس جاء مسرعاً، ولم ير سائقه أية إشارات أو تحذير ليوقف القطار في الوقت المناسب.. كلمات كإهمال وتقصير ولا مبالاة تحضر للذهن هنا.
حوادث قبلها على مزلقانات مفتوحة ولا تحذير أو إشارات تمنع باصات وسيارات من عبورها لحظة مرور القطار.
الأمر ببساطة وبصراحة يا سادة أن الجيل المعاصر هو جيل آخر (وكأنه سلالة أخرى) يختلف تماماً عن جيل ناظر محطة سيدي جابر عام 1949 وعامل الصيانة اللذين كانا جاهزين بالاعتذار وبالمصباح البديل عشر دقائق فقط (في محطة تالية) بعد التبليغ عنه.
أول من أمس في مكالمة دقيقتين مع فني لإصلاح تليفوني الموبايل قال: «الخامسة مساء اليوم، ممكن تغيير الشاشة في مكتبك في نحو 40 دقيقة بـ89 جنيهاً، وإذا كانت الميكروتشيب تالفة، فسأضطر لأخذ الجهاز للورشة، ويعاد بعد 24 ساعة والتكلفة 140 جنيهاً».
اسأل فنياً مصرياً اليوم عن تفاصيل إصلاح عطب: «إمتى يا أسطى؟ وكم يستغرق الوقت؟، ويتكلف كام؟»، فيرد: «ما يخدش وقت كتير... إن شاء الله، وما تحملش هم.... إن شاء الله».. كيف تترجم هذا إلى لغة مفهومة؟ متى بالضبط؟ كم سيتكلف إصلاح العطب كي نخطط للوقت والميزانية؟
كيف يمكن أن تثق بقدرة فني لا يثق هو بقدرته المهنية ليحدد نوع العطب؟ وكيف تقدر وقت الإصلاح أو تكلفته بالتمني فقط «إن شاء الله»؟
لهذا لا أتوقع أن تكون حادثة الإسكندرية الأخيرة بثقافة العمل هذه.
هناك اقتراح أقدمه مجاناً لوجه الله للمسؤولين المصريين.
تقسيم مصلحة السكة الحديد المصرية إلى ثماني شركات تطرح أسهمها في البورصة للجميع. كل شركة تُعطى امتياز احتكار الإدارة لثلاثين عاماً لشركات متخصصة من الصين واليابان وألمانيا وبريطانيا بشروط محددة بتغريم صاحب الامتياز الملايين عند وقوع أي حادث بسبب الإهمال وفقدان الامتياز إذا تكررت الحوادث؛ والخضوع للقوانين المصرية، وتحديد نسب توظيف المصريين؛ وطبعاً حوافز لجذب المستثمر بإعفاءات ضريبية.
شركة تتولى إدارة البنية التحتية من القضبان والتحويلات والمزلقانات والكباري وأكشاك الإشارات، واشتراط توفير مراكز التحكم المركزي متصلة بكاميرات مراقبة على كل التحويلات والتقاطعات والمحطات بكومبيوترات متصلة بأجهزة الإيقاف المركزي لغلق الإشارة وإيقاف القطار.
وشركة لإدارة كل المحطات وتحديثها وتوفير الخدمات فيها وتوصيلها بكومبيوتر شركات القضبان. شركة ثالثة لورش الصيانة في مراكز على كل أنحاء شبكة خطوط السكة الحديد في كل أنحاء البلاد وصيانة القطارات. شركة رابعة لتصنيع قطع الغيار للقطارات وكل ما يتعلق بالصيانة مع إعفاءات ضريبية مربحة تحفز الشركة على تصنيعها في مصر بدلاً من استيرادها مما يوفر عمالة وتدريباً للمصريين.
وأربع شركات لتوفير وتسيير وإدارة قطارات جديدة حديثة لكل ناحية (الدلتا، والوجه القبلي، وشرق مصر وغرب مصر).
أهم نصيحة مجانية هي تجاهل المسؤولين التام لنوعين من المحتجين: محترفو الاحتجاج خاصة مخلفات النظام الاشتراكي راكبي ديناصور الدولة الخرافي مصرين على أن يدير كل أمور الناس.
والثاني فهلوية «إحنا نعرف أحسن من الأجانب».
كيف يدير الجيل الحديث أي مشروع وقد أثبت الواقع عجزه عن إدارة المفتاح في قفل باب بيته؟
بريطانيا العظمى اكتشفت نقصاً بين الجيل المعاصر في المتخصصين والخبراء من الطاقة النووية، والصناعات الثقيلة حتى مقاهي الكابوتشينو، فسمحت للمؤسسات باستقدام عمالة أجنبية؛ ومنحت الصين امتياز بناء وإدارة أكبر المفاعلات الذرية لتوليد الكهرباء، وشركة مواني دبي امتياز بناء وإدارة أحدث مواني التصدير والاستيراد وشحن البضائع وإعفاءات ضريبية (والمقابل تحمل المؤسسة نفقات البنية التحتية وتوظيف المئات). فهل البريطانيون مثلاً أقل «فهلوة» من المصريين؟
السياسي الماهر يوظف طاقة الاستفزاز التي تولدها الأحداث الكبيرة في الرأي العام، للدفع بسياسات إصلاحية مستقبلية قد لا يتقبلها الشعب في الأحوال العادية.
حادثة القطار قرب الإسكندرية هي فرصة تاريخية للدفع بالمشروع الذي أقدر أنه سيغير طريقة إدارة الخدمات الكبرى (التي عادت إلى دون مستوى القرن الـ19) في مصر لتلحق بالقرن الواحد والعشرين.