أحمد عبد المعطي حجازي
TT

إذا فقدنا الفصحى... كيف نعيش؟!

استمع إلى المقالة

بهذه المقالة أختم حديثي عن اللغة الذي بدأته في الشهر الماضي، لتُنشر في الوقت الذي نستعد فيه للاحتفال باليوم العالمي للغة العربية، وهو اتفاق لم أقصده؛ لأني حين كتبت مقالتي الأولى عن لغتنا لم أكن أعرف أنها ستقودني بالضرورة لكتابة الثانية، التي قادتني بدورها لكتابة هذه المقالة الأخيرة، التي أدركت وأنا أكتبها أنها ستُنشر والعالم يستعد ليحتفل معنا بالعربية.

وأنا في غنى عن أن أقول إن قضية اللغة قضية مثارة على الدوام وبصورة ملحّة. ونحن لسنا في حاجة لمناسبة نتذكر فيها هذه القضية ونعالجها فيها. فاللغة العربية هي لغتنا، وهي حاضرة في حياتنا على الدوام، تلح علينا آناء الليل وأطراف النهار، حين نقرأ، وحين نكتب، وحين نفكر، وحين نعبر، وحين نتحاور، وحين نتخيل ونتصور، حتى ونحن نحلم؛ لأننا في حاجة لا تنفد إلى أن نعيش ما نمارسه من نشاط، وما يخطر لنا من أفكار، وما ندخله من تجارب. وهي حاجة لا نستطيع أن نعيشها أو نلبيها دون أن نعيها. ولا نستطيع أن نعيها إلا في صورتها التي تتشكل بها وتتجسد فيها، وتثير انفعالنا. وهذا ما تؤديه اللغة التي يتحول بها نشاط الإنسان إلى وعي وحياة يعيشها بكل ما فيه من طاقات تجمع بين ماضيه وحاضره، ذكرياته وأمانيه، أوهامه وأحلامه، أفراحه وأحزانه، سرّه وعلانيته، أسئلته وإجاباته... باختصار، اللغة ليست مجرد أصوات تنطلق بها ألسنتنا، أو رموز وأسماء نتعلمها ونشير بها ونخلعها على ما حولنا. لا، فهذه هي اللغة الأجنبية، أما اللغة القومية فهي الوعي الحميم الذي نعرف به أنفسنا، أو هي وجودنا كله. ومن هنا حضورها الدائم في حياتنا وفي علاقتنا بغيرنا من الأمم؛ لأنها الجسر الذي يصلنا بالآخرين، كما أن لغات الآخرين هي الجسر الذي يصلهم بنا. وبهذا الفهم للغة ومكانها في الحياة الإنسانية، قررت منظمة «اليونيسكو» في عام 2012 أن تحتفل في الثامن عشر من ديسمبر (كانون الأول) كل عام باللغة العربية، وتجعله يوماً عالمياً، أو عيداً يشارك في الاحتفال به العالم كله؛ اعترافاً بالدور الذي أدته لغتنا في ثقافة الإنسان وحضارته، ولا تزال بما تملك من طاقات وخبرات قادرة على أن تواصل أداءه في المستقبل.

من هنا كان برنامج الاحتفال هذا العام الذي دعت فيه «اليونيسكو» لسياسات وأعمال ترسم للغة العربية مستقبلاً أكثر شمولاً، وتسلط الضوء على دور التعليم، والإعلام، والتقنيات الجديدة، والنشاط العام، في استخدام اللغة العربية بأنماط أكثر يسراً وفاعلية.

و«اليونيسكو» تقدر عدد الناطقين باللغة العربية في العالم، في بعض منشوراتها، بما يزيد على أربعمائة وعشرين مليوناً، معظمهم بالطبع في بلادنا، فضلاً عن مناطق أخرى، إن لم تكن ناطقة بالعربية فهي متأثرة بها وبثقافتنا التي انتشرت مع الإسلام في العالم الممتد من إسبانيا إلى الصين.

ونحن نعرف أن العربية انتشرت بسرعة في هذا العالم المترامي. في إسبانيا لم يمضِ على دخول العرب أكثر من قرنين حتى أصبحت العربية لغة الأجيال الجديدة. ولدينا شاهد عيان من القرن التاسع الميلادي هو بولس الفاروس القرطبي الذي كان يشكو من أن الشباب المسيحي مهتم بالشعر العربي أكثر من اهتمامه بلغته الرومانسية.

والعربية في إسبانيا وغيرها من البلاد التي دخلها العرب لم تكن لغة حياة يومية فقط تُستعمل مع غيرها من اللغات المحلية، وإنما كانت أيضاً لغة الثقافة والعلوم. وهذا ظاهر حتى الآن في المصطلحات التي اقتبستها اللغات الأوروبية في الميكانيكا، والفلك، والكيمياء، والطب. كلمة «اللوغاريتمات» من اسم العالم العربي الخوارزمي، وكلمة «ألماناك» من المناخ. والكلمات العربية المقتبسة في الإسبانية وفي الإيطالية تستعمل مصحوبة بأداة التعريف العربية «ال». والمفردات العربية في بعض اللغات الآسيوية والأفريقية موجودة بنسب مختلفة. خمسون في المائة من مفردات السواحيلية تعود لأصول عربية.

***

ونعود إلى اليوم العالمي الذي خصصته «اليونيسكو» للاحتفال باللغة العربية، فنقول إن برنامج الاحتفال بلغتنا هذا العام استمرار لبرامج سابقة احتفلت فيها «اليونيسكو» باللغة العربية، وقدمت أمثلة لما يجب أن يكون عليه الاحتفال بها، ومنها الاجتماع الإقليمي الذي نظمته «اليونيسكو» في مدينة الرباط عاصمة المغرب في اليومين الرابع والعشرين والخامس والعشرين من شهر أكتوبر (تشرين الأول) عام 2022، وكان موضوعه: «اللغة العربية... ما وراء الموروث». وفي هذا الاجتماع تحدث المشاركون عن المكان الذي تحتله اللغة العربية في ثقافة العالم، وعن دورها في تعزيز الحوار والتفاهم المتبادل في المستقبل.

وقبل تسع سنوات أقامت «اليونيسكو» احتفالاً بالخط العربي، قدمت فيه معرضاً لهذا الفن تحت عنوان: «جمال الخط العربي». ونظمت بجانب المعرض لقاءات تحدث فيها الخطاطون والمهتمون بالخط عن هذا الفن الذي ضمته «اليونيسكو» إلى قائمتها المعتمدة من التراث الثقافي الإنساني. وقبل خمسين عاماً اعتمدت الأمم المتحدة اللغة العربية لغةً رسمية، فماذا عما تلقاه هذه اللغة في بلادها؟

الجواب في مقالتي الأولى التي نُشرت في هذه الصحيفة الغراء يوم الأحد الأسبق بعنوان: «لغتنا... من ينقذها؟!»؛ وذلك لأن الأخطار التي تهدد اللغة العربية لا تأتيها من الخارج أو من مصدر مجهول، وإنما تأتيها من أهلها الأقربين، فمن يتصدى لهم؟

واللغة التي أتحدث عنها هي بالطبع لغتنا الفصحى التي تخلفت كما تخلفنا في القرون الماضية، وأصبحت في حاجة إلى جهود جبارة تعوّض بها ما فقدته، وتمكّنها من الحياة في هذه العصور الحديثة، فإذا فقدناها فبأي لغة نعيش؟ باللهجات الدارجة التي لم تصبح لغة بعد، أم باللغات الأجنبية التي لا نملكها؟ ولنتخيل أننا امتلكناها، فكيف سنصبح فيها؟ سنفقد أصولنا، ووعينا بأنفسنا، ونتحول إلى كائنات مترجمة، ووجوه مستعارة!