كانت بوينوس آيرس «باريس أميركا اللاتينية» بلا منازع عشية الحرب العالمية الأولى، يتمتع سكانها برخاء لم يتوفر في معظم المدن الكبرى في العالم في ذلك الوقت. في النصف الأول من القرن العشرين، كانت الأرجنتين في مصاف الدول الغنية، نصيب الفرد فيها من السيارات يضاهي ألمانيا أو فرنسا. بدأ الانهيار السياسي والاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية ولم يتوقف كلياً حتى الآن.
تقرأ في التاريخ فتتنبه أيضاً إلى أن عقوداً قليلة فصلت بين استقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا وانتهاء الاحتلال الإسباني لجارتها المكسيك. اليوم تقطع الحدود بين البلدين في دقائق لكن يمكنك قياس الفرق في مستوى المعيشة بالسنوات الضوئية. تكتشف أن انهيار الدول، أو «فشل الأمم» بحسب دارين أسيموغلو وجايمس روبنسون، قد يستغرق عقوداً طويلة، أو قروناً في بعض الأحيان.
مرحباً بك في لبنان. متى بدأ الانحدار هنا؟ ومتى ينتهي؟
قد نختلف حول تاريخ البداية لكن لا نهاية تلوح في الأفق. أنتمي إلى معسكر يرى أن النظام السياسي والاقتصادي الذي حكم لبنان منذ ولادته حمل بذور الفشل الذي نعيشه اليوم بتكريسه لمصالح طبقة ضيقة «أطبقت» على مصالح الشعب. تستر حماة هذا النظام وراء ديمقراطية زائفة وشعارات أكثر زيفاً مثل أن قوة لبنان في ضعفه. استعان أركانه بالوصايات الأجنبية الواحدة تلو الأخرى في حروبهم الداخلية ثم ادعوا أن لبنان أضحى ساحة لحرب الآخرين.
اليوم يرى شركاء لبنان وحلفاؤه الأمر على حقيقته.
مع مطلع العام الحالي، سألت دبلوماسياً عربياً كبيراً عن تقييم بلاده للوضع في لبنان بعد انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية والقاضي نوّاف سلام رئيساً للحكومة، فقال إن فرص النجاح «أكثر تعقيداً بكثير» من سوريا الخارجة للتو من حرب أهلية قطّعت أوصالها ودمرت اقتصادها. لا يشكك أحد في نيات العهد الجديد وإخلاص من فيه: ترك سلام رئاسة محكمة العدل الدولية ليترأس الحكومة، وتخلى رجل مثل عامر بساط عن منصب مرموق في أكبر شركة لإدارة الأصول المالية في العالم ليتولى حقيبة الاقتصاد.
غير أن هذا العهد الجديد ولد من رحم النظام القديم. في هذا السياق، تحدد الطائفة المذهبية التي ينتمي إليها بساط مثلاً حدود نفوذه التنفيذي والسياسي قبل كفاءته وعلاقاته الدولية. كما أن مسؤوليه لم يساعدوا أنفسهم، فأطلقوا شعارات وردية وعدت بعودة سيادة الدولة وسيطرتها على السلاح وإعادة أموال المودعين، من دون مصارحة الناس بمدى صعوبة تحقيق هذه الأهداف أو الوقت المطلوب لذلك، أو «استحالة» عودة الودائع بقيمتها الحقيقة.
والنتيجة أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب استقبل الرئيس السوري أحمد الشرع في البيت الأبيض، وترك لبنان يعاني الأمرّين مع موظفي الإدارة الأميركية. حلّ الشرع أيضاً ضيفاً على كريستالينا غورغييفا مديرة صندوق النقد الدولي في واشنطن، في حين يبدو أن إقرار قانون «الفجوة التمويلية» من قبل مجلس النواب اللبناني الذي سيمهد لقرض من الصندوق ومزيد من المساعدات سينتظر إلى ما بعد انتخابات العام المقبل، وكأننا نمتلك ترف الانتظار.
إعادة الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي لسوريا تبقى هدفاً صعب التحقيق، لكن الزخم العربي والدولي لدعم الإدارة الجديدة واضح كالشمس. في المقابل، لم تعد الوعود أو الأعذار في لبنان تنطلي على أحد، حتى وإن كانت نابعة من تحديات حقيقية، مثل أن القصف الإسرائيلي المستمر للجنوب يظهر عجز الدولة عن الدفاع عن مواطنيها.
بعد نحو شهر من انتخاب الرئيسين عون وسلام، حذّر الصديق والمحلل الجيو - سياسي هاني صبرا، مؤسس شركة «ألف» للاستشارات، عملاءه من الإفراط في التفاؤل بقدرة الحكومة على تحقيق أي من مطالب المجتمع الدولي الرئيسية خلال عام واحد. قاربت السنة على الانتهاء فتحدثت إلى صبرا وعدد آخر من المحللين عقب حضورهم لمؤتمر اقتصادي نظمته الحكومة الشهر الماضي في بيروت، لأجد مزيداً من التشاؤم.
الحل أكبر مني بكثير، لكنه يبدأ بالمصارحة علناً مع الناس في الداخل قبل الخارج، ومحاولة ضبط سقف التوقعات، وينتهي بتفكيك النظام السياسي الذي قادنا إلى الفخ نفسه الذي وقعت فيه الأرجنتين. لدى الأرجنتين، على الأقل، مارادونا وميسي، في حين منحنا نحن رئيس الفيفا جواز سفر لا يمكنه معه حضور كأس العالم حتى من مقاعد المشجعين!
