خلال الأيام القليلة الماضية، انتشر على منصات التواصل الاجتماعي في السعودية والصين مقطع فيديو مؤثّر يُظهر ثلاثة شباب من منطقة حائل وهم يهرعون لإنقاذ مواطنَيْن صينيّيْن حوصرا داخل سيارة جرفتها السيول، غير آبهين بخطورة المياه المنهمرة. وما إن بلغ الخبر السفير الصيني في الرياض، حتى سارع إلى دعوة هؤلاء الشباب إلى مقرّ السفارة في اليوم التالي لتكريمهم، وتقديم تذاكر سفر إلى الصين وهدايا أخرى لهم، تقديراً لعملهم البطولي وعرفاناً بموقفهم النبيل. وقد أثارت هذه القصة موجةً واسعة من التفاعل بين ملايين المستخدمين في البلدين، عبّر معظمهم عن الإعجاب بالشباب الثلاثة والتقدير لشجاعتهم.
وتزامنت هذه القصة مع ثلاثة سياقات بارزة منحتها بُعداً يتجاوز كونها واقعة إنسانية عابرة:
أولاً، وقعت هذه القصة في عام يوافق الذكرى الخامسة والثلاثين لتأسيس العلاقات الدبلوماسية بين الصين والسعودية، وهو العام الذي جرى اختياره عاماً للثقافة الصينية-السعودية. وقد عجّت منصات التواصل الصينية بشهادات لمواطنين صينيين مقيمين في السعودية يؤكدون كرم الشعب السعودي وطيبته وشهامته، واستعاد العديد منهم مكرمة الحكومة السعودية للصين عقب الزلزال المدمر الذي ضرب مقاطعة سيتشوان عام 2008، المكرمة التي تبلغ قيمتها 60 مليون دولار أميركي، لتصبح أكبر منحة مالية قُدِّمت إلى الصين من قِبَل دولة أجنبية بعد هذا الزلزال. وفي المقابل، لا تخلو هذه المواقع من تعليقات السعوديين الذين ذكروا مساعدات أو حفاوات تلقوها من الشعب الصيني.
وفي عالمنا الذي تعصف به الأزمات والتوترات والنزاعات، كانت هذه التعليقات الودّية التي رافقت انتشار الفيديو، تُشعر المرء بنفحات إنسانية دافئة، وتذكّر بقيم الشهامة والبطولة والتعاون وعرفان الجميل، وتؤكد أن الصداقة بين الشعوب تُصنع عبر الأفعال قبل الكلمات.
لذا، تحوَّلت قصة الشباب السعوديين الثلاثة إلى رمز مُلهِم في عامٍ يحمل دلالات خاصة للعلاقات الصينية السعودية. لقد أضافوا، من دون تخطيط مسبق، صفحةً جديدة إلى سجل الصداقة بين الشعبين، وقدّموا مثالاً رائعاً على أن جسور الصداقة بين الشعبين لا تُبنى عبر البيانات السياسية والاتفاقيات التجارية فحسب، بل على مثل هذه اللحظات العفوية والمواقف الإنسانية التي تُجسد الأخلاق الأصيلة والمشاعر الصادقة للشعبين.
ثانياً، حصلت هذه القصة، بالتزامن مع الزيارة التاريخية التي قام بها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن، ففي حين تصدرت هذه الزيارة عناوين وسائل الإعلام، نالت قصة الشباب السعوديين الاهتمام الشعبي أيضاً، وحظيت بإشادة واسعة، وكأنها تذكير بأن السعودية تسير بثقة نحو بناء علاقات متوازنة مع واشنطن وبكين معاً، بعيداً عن منطق الاصطفاف، وقادرة على تعزيز صداقاتها المتعددة دون تعارض بينها. ولا شك في أن هذا النهج المتزن هو أحد مصادر قوة الدبلوماسية السعودية، لأن جميع الدول الكبرى والفاعلة تحرص على صداقة السعودية، وتعدّها صديقاً مهمّاً موثوقاً به.
كما أن الصداقة السعودية-الصينية اليوم ليست مجرد خيار سياسي، بل تُبنى على أسس مصالح مشتركة ومنفعة متبادلة أيضاً. فالصين هي الشريك التجاري الأول للسعودية منذ أكثر من عقد، ومبادرة الحزام والطريق الصينية تلتقي وتتكامل مع «رؤية 2030» السعودية. وقد تجاوز التعاون الثنائي بين البلدين منذ سنوات التجارة النفطية التقليدية، ليشمل مجالات جديدة كالطاقة الخضراء، والاتصالات من الجيل الخامس، والفضاء، والتكنولوجيا الحيوية، والذكاء الاصطناعي، والمدن الذكية، إلخ. لذا، يمكن القول إن العلاقات السعودية-الصينية تشهد أفضل مراحلها الآن، تماماً كما تشهد العلاقات السعودية-الأميركية أفضل مراحلها أيضاً. إنها ظاهرة فريدة تؤكد حنكة الدبلوماسية السعودية وتُبرز مكانتها العالية في عالم متغير.
ثالثاً، حدثت القصة بعد فترة وجيزة من صدور تقرير مهم أعدّه معهد «مبادرة مستقبل الاستثمار» لقياس المزاج العالمي حول اتجاه الحياة الشخصية والبلدان والعالم ككل، وتُشير نتائجه إلى أن الشعبين الصيني والسعودي من أكثر شعوب العالم تفاؤلاً للمستقبل، إذ تصدّرت الصين بنسبة 91 في المائة، تليها السعودية مباشرة بـ89 في المائة. (انظر إلى مقالة الدكتور عبد الله الردادي بعنوان «تفاؤل الجنوب وتشاؤم الشمال» في هذه الجريدة بتاريخ 10 نوفمبر 2025). ويدل ذلك على أن هناك ميزة مشتركة تجمع الصين والسعودية، وهي الثقة الكبيرة بالمستقبل، والإيمان القوي بإمكانات التنمية، وبالتالي، فإن العلاقات الصينية-السعودية لا تقوم فقط على المصالح الاقتصادية أو التفاهمات السياسية، بل تستند أيضاً إلى رؤى وتطلعات مشتركة للمستقبل الواعد.
وتُبين قصة هؤلاء الشباب الثلاثة أن أثمن ثروة للسعودية ليست النفط أو الغاز أو معادن أخرى، بل الإنسان السعودي نفسه، خصوصاً الشباب الذين يحافظون على الكرم والنخوة والطيبة وغيرها من الأخلاق السامية التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، وفي الوقت نفسه يواكبون العصر، وينفتحون على العالم وعلى المستقبل. وهي صفات يشاركهم فيها الشباب الصينيون إلى حدّ كبير، ما يُهيئ الأرضية النفسية والروحية لصداقة تمتد وتتجدد جيلاً بعد جيل.
