تشكل الثروة المائية سبباً أساسياً للصراعات والحروب في العالم، كما يشكل تداخل الثروة المائية أزمة بين الدول على غرار ما يحدث في مناطق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث تتشابك قضايا شحّ المياه مع النزاعات والخلافات السياسية، على سبيل المثال، النزاع حول نهري دجلة والفرات بين تركيا والعراق وسوريا بسبب السدود التي تنشئها تركيا، والخلافات على نهر النيل بين مصر وإثيوبيا والسودان بسبب «سد النهضة» وغيره من السدود، كذلك النزاعات التاريخية حول نهري الحاصباني والوزاني بين إسرائيل ولبنان. فهل من احتمال اندلاع نزاعات وأزمات من نوع آخر في منطقة الشرق الأوسط، وهل تكون الحروب المقبلة في المنطقة بسبب المياه؟!
تتمثّل التحدّيات الاقتصادية في مشكلة ندرة الموارد الاقتصادية المحدودة، بخاصة المياه، مقارنة بالاحتياجات البشرية المتزايدة. والتغيّر المناخي يشكّل عبئاً جذرياً وتهديداً ثقيلاً على الدول وعلى البشرية جمعاء في هذا الكوكب؛ لذلك لجأت بعض الدول إلى تحلية مياه البحر لسدّ حاجات الإنسان من مياه عذبة للشرب والري والصناعة والطاقة الكهرومائية وغيرها، بخاصة دول الخليج في منطقة الشرق الأوسط. والسؤال هنا: هل سيشهد لبنان في يوم من الأيام تحلية مياه البحر الوفير لإرواء الشعب اللبناني الظمآن؟!
يتمتّع لبنان بثروة مائية ضخمة ويجذب أنظار الدول المجاورة حوله كبلدٍ غنيٍ بالموارد المائية في الشرق الأوسط، حيث يعتمد على أنهار رئيسية، أهمها: نهر الليطاني الذي ينبع من غرب بعلبك ويبلغ طوله 170 كيلومتراً وهو الأطول والأكبر، ونهر الحاصباني الذي يُعدّ رافداً لنهر الأردن وينبع من جبل الشيخ «حرمون» ونهر العاصي الذي ينبع من سهل البقاع ويتدفق شمالاً إلى سوريا إلاّ أنه وصل إلى جفاف تام في الآونة الأخيرة وهذا يُعدّ سابقة تاريخية. لكن منسوب المياه لا يقتصر على نهر العاصي فقط، بل إن بحيرة القرعون أكبر البحيرات الاصطناعية في لبنان، تشهد انخفاضاً حاداً ومثيراً للقلق في منسوب المياه في عام 2024 - 2025 بسبب شحّ الأمطار والجفاف الشديد وزيادة الاستهلاك وتراجع نسبة المياه في البحيرة تتراوح ما بين 62.5 في المائة وما يزيد على 65 في المائة تقريباً وانخفاض المخزون المائي من نحو 152.7 مليون متر مكعب إلى نحو 57.2 مليون متر مكعب. فهل يعقل في بلد عائم على مياه كلبنان أن تذهب مياه أنهاره هدراً إلى البحر وشعبه في أمسّ الحاجة إلى قطرة ماء من دون معالجة سريعة وفعلية من قِبل الجهات الرسمية المعنية والمواطنين اللبنانيين معاً، بخاصة وأن نسبة الهدر فيه تتراوح ما بين 50 و60 في المائة؟ مياه وفيرة... وشعب عطشان!
يمرّ لبنان بأزمات كثيرة إلى جانب أزماته السياسية، ومن أهمها، إن لم تكن الأهم، ندرة الموارد المائية السطحية والجوفية التي تشكّل مشكلةً اقتصاديةً كبيرة في ظل التغيّر المناخي. ومع ذلك، يواجه لبنان تحديات كبيرة في إدارة هذه الموارد بسبب البنية التحتية المتداعية القديمة، ونقص الاستثمار، وتزايد الطلب الذي يتجاوز العرض المُتاح، ليؤدي إلى انخفاض مستويات المياه الجوفية وزيادة الأعباء على شراء المياه المكلفة. كما أن نقص التمويل وسوء الإدارة، والأزمة السياسية والاقتصادية التي تتسبّب في انهيار الخدمات الأساسية، أدّت إلى زيادة الاعتماد على جمهورية «مافيا الصهاريج» للحصول على مياه ملوثة مكلفة وبجودة سيئّة أحياناً.
تسهم صهاريج المياه في لبنان في سدّ النقص الكبير في المياه الذي يعاني منه 70 في المائة من السكان، بسبب سوء إدارة شبكات المياه العامة؛ ما أدّى إلى زيادة مشاكل المستهلكين وارتفاع المخاطر وزيادة أعبائهم المالية نظراً لارتفاع الأسعار وغيرها. وتعمد أغلب الأسر في لبنان إلى شراء المياه بالصهاريج؛ ما أدّى إلى ظهور سوق بديلة غير خاضعة للرقابة ما يزيد من معاناة المستهلكين بسبب تفاوت الأسعار وعدم وجود معايير واضحة، فضلاً عن مخاطر صحية محتملة بسبب تلوث المياه أو سوء صيانة الخزانات. كما أن هذه الصهاريج تعمل في قطاع غير منظّم وتوفّر حلّاً مؤقتاً؛ لذا على المواطن أن يشتري مياه الصهاريج في الحالات الطارئة ليس لأن الينابيع فارغة من المياه، بل لأن الاستغلال يتفشّى بحجّة ندرة المتساقطات. فإلى متى سيبقى المواطن اللبناني تحت رحمة أصحاب الصهاريج الذين يعملون تحت غطاء السياسة والفساد؟!
إن لبنان اليوم ضائع في دهاليز السياسة العقيمة ومصير ثروته المائية مهدّد وفي تناقص مستمر بسبب عوامل متعددة، أهمّها التناحر السياسي وعدم وجود وزارة تخطيط يزيد في الطين بلّة. فمن المفروض الحصول على رخص حفر آبار جوفية بطرق قانونية ومنظمة والأخذ في الاعتبار بتوصيات الأمم المتحدة للتنمية التي تشير إلى ضرورة الإفادة بـ3.5 مليار متر مكعب من المياه الجوفية المتجدّدة؛ ما يؤول إلى إمكانية تصدير المياه إلى الدول المحيطة به.
هذه صرخة تضيء على واقع مرير خطير يستدعي حال الطوارئ في أسرع وقت ممكن. فمن المؤسف في بلد يعوم على مياه وأهله يشترون الماء، أن يصرف المليارات لشراء الماء بينما ثروته تُهدر إما في البحر وإما في عدم ترشيد المياه وهدرها في غير محلها.
