احتفالاً ببلوغه المائة عام، نشر رئيس الوزراء الماليزي اللامع مهاتير محمد مقطعاً قصيراً وهو يقود سيارته برفقة زوجته. حتى الآن القصة طبيعية، لكن ما أثار اهتمامي ردود فعل ملايين الناس حول العالم التي استنكرت أن يمسك بمقود السيارة «رجلٌ مئويُّ»!
أعادتني تلك القصة إلى الجدل الدائر في «القارة العجوز» التي دفعت المفوضية الأوروبية إلى تطبيق فحص «أهلية» كبار السن للقيادة. المفارقة أنني قرأت في سجلات منظمة الصحة العالمية أن ثلثي حوادث المرور المميتة عالمياً تحدث بين سن 18 و59 عاماً، فيما لا تتجاوز وفيات من تجاوزوا السبعين عاماً 13 في المائة خلال عام 2023، وفق ما قرأته في موقع الحكومة البريطانية. وهو ما ينسحب على أوروبا أيضاً! ولعل هذا ما دفع المفوضية إلى إعادة تأهيل الشباب عبر وحدات تربوية جديدة في مدارس تعليم السياقة. فالمشكلة ليست مرتبطة بالسن وحدها، بل بالسلوك والاندفاع وضعف الخبرة. «لعنة السن» باتت شماعة تُعلَّق عليها مشكلات كثيرة.
المفارقة أن هذا التشدد تجاه كبار السن يتزامن مع تطور تقني مذهل، فحتى أبسط السيارات الصينية أصبحت مزودة بتنبيه الخروج عن المسار، وإعادة المقود تلقائياً عند الانحراف، والفرملة الذاتية للطوارئ، ومراقبة انتباه السائق. ومع ذلك، ما زال البعض يرى أن الكبار عِبءٌ على طريقه وحياته. هو تصور يجافي العدالة، ويعزز نفور الناس من شريحة تمتلك من الخبرة والحكمة ما يستحق الدعم والتقدير.
وبعيداً عن الحوادث، تكشف لنا إحدى الدراسات العلمية أن هؤلاء الكبار الذين لم يعد لهم برامج تستعين بخبراتهم، يتحلون بمزايا عديدة، منها أن شيخوختهم في تراجع وأن هناك نمواً في الحكمة. مجلة «نيتشر» العلمية الذائعة الصيت ذكرت أن الذين يمتلكون «الحكمة» يميلون نحو سلوكيات صحية وهادئة، وأقل اندفاعاً ومخاطرة. في دراسة صينية في دورية «فرونتير» تبيّن أن كبار السن باتوا قادرين على التكيف مع التقنيات الحديثة، ما ينقض فكرة عدم مواكبة التكنولوجيا.
إننا بحاجة إلى إعادة دمج كبار السن في ميادين الحياة، فكلمة «متقاعد» لا تعني «متوقف» عن العطاء، بل صاحب خبرة يبحث عن فرصة يخدم بها مجتمعه، خصوصاً للشباب. يمكن تحقيق ذلك عبر برامج تستثمر خبراتهم، وبنك معلومات يرصد ويصنف مواهبهم وقدراتهم وخبراتهم.
ذلك أن الاندفاع الشبابي في الطرقات صورة مصغرة لاندفاع أشمل في الحياة. فالشاب يندفع نحو عمل تجاري، أو مهنة لا تناسبه، أو يتخذ قراراً مصيرياً بلا استشارة أو تروٍّ، مدفوعاً بثقة زائفة غذتها فيديوهات سطحية أو هلوسات الذكاء الاصطناعي.
بدل أن يستنكر المجتمع ما فعله مهاتير، كان الأجدر أن يحتفي به. فمشهد رجل مئوي يقود سيارته بثبات هو درس للاقتداء لا الاستهزاء. وهو رسالة تؤكد أن العمر مجرد رقم وأن هشاشتنا الفكرية هي المعضلة، لا مئوية مهاتير.
