في هذه الأيام، ونحن نتحدث عن منظمة اليونيسكو، وعن المنصب المهم الذي فزنا به فيها، وعما يتطلبه هذا المنصب من نشاط دائب وخبرة واسعة، وما يلقيه على عاتقنا من مسؤوليات؛ في هذه الأيام أجد مناسباً - وبالأحرى واجباً ملحاً - أن نتحدث عن «الألكسو»، وهي منظمتنا العربية التي أنشأتها جامعة الدول العربية من أجل التمكين للوحدة الفكرية بين أجزاء الوطن العربي عن طريق التربية والثقافة والعلوم، وتنمية اللغة العربية، ومد جسور الحوار والتعاون بين ثقافتنا والثقافات الأخرى.
هذه المنظمة بهذه المطالب الحيوية التي أنشئت لتلبيتها ليست حاضرة في حياتنا كما ينبغي أن يكون الحضور. ونحن لا نقرأ شيئاً أو نسمع شيئاً عما أدته أو عما تؤديه بقدراتها الخاصة، أو بالتنسيق والتعاون بينها وبين الوزارات والمؤسسات العربية المختلفة العاملة في ميادين التربية والثقافة والعلوم. ونحن لا نعرف شيئاً عن أسباب هذا الغياب ونحتاج لأن نعرف هذه الأسباب. هل هي المؤسسات الأخرى المسؤولة عن التعريف والإعلام والمتابعة؟ أم أن المنظمة هي المسؤولة عن عدم التعريف بما تحققه؟ أم أن النشاط الذي تقوم به هذه المنظمة محدود لأسباب نجهلها كذلك، ونحتاج لمعرفتها ومعالجتها لتتمكن المنظمة من أداء رسالتها، وخاصة في هذه الأيام التي لا نرى فيها نشاطاً ثقافياً يلبي حاجتنا الدائمة للتواصل، ويجيب عن الأسئلة التي تطرحها علينا التطورات والأحداث المحلية والعالمية، ويدعم وحدتنا الفكرية التي تحتاج بالفعل لدعم، ويجسدها في إنتاج حي نتواصل من خلاله، ونتصل بتراثنا المشترك من ناحية، وبثقافة العصور الحديثة من ناحية أخرى، ويكون أساساً لمستقبل تتحقق فيه وحدتنا المأمولة، ومشاركتنا الإيجابية في حياة العصر الذي نعيش فيه.
ولأن ثقافتنا القومية شرط وجود بالنسبة لنا، فالأخطار التي تتعرض لها يتعرض لها وجودنا. وعلى أساس الوعي بهذه الحقيقة الثابتة أنشئت «الألكسو» للنهوض بالثقافة العربية وتطويرها في مجالات التربية والثقافة والعلوم في كل قطر عربي، بسياسات وخطط يتحقق بها التنسيق والتبادل، ويستجيب بها النشاط العام للأهداف المشتركة، ويتصدى لما تواجهه ثقافتنا في الوقت الراهن من أخطار نراها رأي العين، ليس من الآن، بل من سنوات لم تتوقف فيها ثقافتنا عن النمو والتقدم فحسب، بل تخلت أيضاً عن إنجازات حققتها في القرنين الماضيين وخرجت بهذه الإنجازات مما كانت تعانيه قبلهما لتستعيد حيويتها، وتجرب نفسها في مجالات لم تعرفها من قبل فتنجح وتثبت جدارتها.
ثم تتغير الظروف والشروط التي ساعدت على الوصول إلى ما وصلت إليه فتتعثر وتتوقف كما ذكرت؛ لأن الثقافة القومية، وخاصة في هذه العصور الحديثة، ليست عملاً بسيطاً أو إنتاج أفراد يؤدونه بوسائلهم ويرضون به لأنفسهم، وإنما هي إنتاج الجماعة القومية بما تملك من مؤسسات تربوية، ومعاهد فنية، ووسائل اتصال، وأجهزة إعلامية، وميزانيات، فضلاً عن وجود الجمهور الذي يشعر بالحاجة، ويطلب ما يحبه وينفعه، ويستجيب لما يقدم له ويتذوقه. ونحن ننظر الآن حولنا فلا نجد من هذه الشروط ما يكفي لإيقاظ الوعي، ودعم النشاط، وتحقيق الازدهار، وهي الأهداف التي كان منتظراً أن تساعدنا «الألكسو» في الوصول إليها.
***
و«الألكسو» أنشئت في منتصف العام السبعين من القرن الماضي في مناخ كان ينذر بالأخطار التي تهدد الثقافة العربية، ويستدعي الحذر والاحتياط والتصدي المسبق لما يمكن أن يحدث. وهكذا سارع المسؤولون في جامعة الدول العربية للعمل بموجب المادة الثالثة من ميثاق الوحدة الثقافية العربية فأعلنوا رسمياً عن قيام المنظمة بالقاهرة في التاريخ الذي ذكرته. لكن مقر المنظمة انتقل بعد هذا التاريخ إلى تونس. وطوال هذه الأعوام التي مضت منذ إنشاء المنظمة، وهي خمسة وخمسون عاماً لم يصل إلى علمنا ما يطمئننا على مستقبل الثقافة العربية. لم تخطُ المنظمة بالثقافة العربية خطوات إلى الأمام، ولم تحل دون أن ترجع للخلف. وسوف أعطي مثلاً واحداً على هذا التراجع المثير هو ما صارت إليه لغتنا الفصحى كما نراها هذه الأيام في أجهزة الإعلام، وعلى ألسنة المتحدثين في المؤسسات المختلفة، وحتى في المدارس والمعاهد، وفي هذه الإعلانات التي تطاردنا في كل مكان بما تحمل من ركاكة وسوقية!
أين لغتنا الفصحى التي أيقظناها من نومها الطويل واستعدنا لها حيويتها وجمالها، واكتشفنا فيها طاقات لم تكتشف من قبل، ونظمنا بها معلقات جديدة، وألفنا بها الرواية، والقصة، والمسرحية، وحصلنا بما ألفناه فيها على أرفع الجوائز الأدبية، أين هذه اللغة الآن؟ وإذا كنا قد حققنا ما حققناه فيها حين كانت إمكاناتنا محدودة، فلماذا لم نواصله وقد تضاعفت الإمكانات وتطورت ودخلت التجربة وأثبتت جدارتها حتى فزنا في الأيام الأخيرة بالمنصب الذي فزنا به في اليونيسكو؟
وإذا كنا نرى أنفسنا أهلاً للنهوض بثقافات العالم ورعايتها فنحن مسؤولون أولاً عن النهوض بثقافتنا القومية وحمايتها من الأخطار المحدقة بها.
وهذه هي الرسالة التي كان على مؤسساتنا أن تؤديها، ومنها دون شك المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التي كنا ننتظر منها أن تقدم الكثير للثقافة العربية وللغة الفصحى برسالتها التي التزمت بأدائها، وبالخبرات التي تستطيع أن تجدها، وبالمؤسسات الأخرى التي يمكنها أن تستعين بها وتنسق معها. فإذا كانت قد وجدت مع ذلك أن هناك ما يحول بينها وبين أداء الرسالة فواجبها في هذه الحالة أن تعلن عما تواجهه من مشكلات، أو تطلب ما تراه ضرورياً لأداء ما يجب عليها أن تؤديه.
***
والحديث عن لغتنا الفصحى وما تواجهه لا ينتهي عند هذا الحد. وهي قضية متعددة الوجوه تحتاج لمعالجات مختلفة يشارك فيها العاملون في حقولها الكثيرة لتوضيح جوانبها من ناحية، وللوصول إلى حلول لها نطمئن بها على مستقبل هذه اللغة الذي هو دون أدنى مبالغة مستقبلنا. فالفصحى هي عمود ثقافتنا، وثقافتنا هي عمود وجودنا.
