د. عبد الغني الكندي
رئيس الجمعية السعودية للعلوم السياسية والأستاذ المساعد بقسم العلوم السياسية بجامعة الملك سعود
TT

نايف بن نهار «صوت البجع الأخير» للجماعة

استمع إلى المقالة

يُعتبر «الربيع العربي» من دون شك أحد أبرز الأحداث التي شكّلت منعطفاً حاداً في التاريخ السياسي الحديث بالمنطقة العربية خلال العقد الماضي. وبالرغم من التباين الكبير في الآثار السياسية التي خلّفها هذا الحراك، وتفاوت مواقف القوى الدولية تجاه نتائجه، فإن أبرز ما يمكن ملاحظته في خضم هذا التحول غير المسبوق هو التراجع المطرد لفاعلية ونفوذ حركة «الإخوان المسلمين» وانحسار دور التيار المعروف بـ«الصحوة الإسلامية»، والتفكك التدريجي للأطر المفاهيمية والخطاب التعبوي اللذين يتبنيانهما. كما شهدت الساحة تقهقر الرموز الفكرية لهاتين الحركتين التي أثرت بعمق في الوعي السياسي العربي والإسلامي لأكثر من نصف قرن. هذا الانحسار تجلّى بوضوح من خلال مجموعة من المؤشرات البارزة.

أولها، اختفاء عدد كبير من القيادات المؤثرة، سواءً نتيجة الوفاة، أو السجن، أو اضطرارهم للهجرة والابتعاد عن أوطانهم. وأمست شخصيات بارزة كالقرضاوي والغنوشي والترابي والزنداني، ممن كانوا يشكّلون أعمدة العمل الفكري والتنظيمي، بعيدة عن التأثير الفاعل في تشكيل الوعي الجماهيري أو قيادته وحشده وتعبئته وتنظيمه سياسياً. ثانياً، تبدل مواقف العديد من الدول العربية تجاه هذه الحركات، حيث أدركت مدى خطورتها على استقرار الأنظمة السياسية واستدامتها، فجمدت الدعم المالي والسياسي الذي كان يُغذّي العديد من هذه التنظيمات، ما تسبب بإغلاق فروعها، أو طرد قياداتها، واتجاه بعض الأنظمة العربية للتبرؤ منها بالكامل. ثالثاً، تراجع تأثير الخطاب الثقافي والسياسي لهذه الحركات أمام إرادة مجتمعات أخذت تتبنى التعددية الفكرية، وتحتضن التنوع الثقافي، وترسخ المساواة بين الجنسين، التي تزامنت مع فتح الأبواب أمام تدفق الاستثمار الأجنبي وتزايد أعداد السياح من مختلف بقاع العالم، وبالتوازي مع تعديل القوانين والأنظمة لتتماشى مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية الجديدة. هذه المظاهر الإنسانية، التي تجسد المرونة والانفتاح والتقدم الحداثي، كانت في صدام مباشر مع المبادئ التي تتبناها تلك التيارات الحركية.

ورافق هذه التحولات السياسية والاجتماعية تآكل تدريجي في المنظومة الفكرية والمفاهيمية التي كانت تشكِّل جوهر الخطاب الخاص بهذه الحركات، والتي أثرت على طرق صوغ المعاني والدلالات السياسية لبرامجها الحزبية والتنظيمية. فأزيحت شعارات الأممية، و«الإسلام هو الحل»، و«الجهاد سبيلنا»، و«الخلافة درع الأمة»، والنظرة الازدرائية للمرأة. كما تضاءلت قدرة المفاهيم الآيديولوجية والتعبوية التي شكّلت تاريخياً مفاتيح القراءة الثورية لدى التيارات الحركية على أداء وظائفها التفسيرية مثل «الجاهلية» و«الحاكمية» و«التغريب». وأفضى كل ذلك إلى تكلّس تدريجيّ في بنى الخطاب الذي كان يستمد شرعيته من هذا الزخم التعبوي العابر للحدود. وبالمقابل تصاعدت سرديات الهوية الوطنية، والمرجعية القانونية للسيادة، والدولة القطرية، واحترام التعايش السلمي، وحقوق المواطنة. كما استبدلت بتلك الشعارات والمقاربات الآيديولوجية المتضخمة تقديرات مؤسسية أكثر التصاقاً بميزان الكلفة والمنفعة الوطنية. إضافة إلى قبول تلك الحركات بتعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي مع قوى دولية مثل الولايات المتحدة، التي كانت ترفض التعامل معها على مستوى الشعارات بوصفها «دولة كفرية استعمارية». وهكذا باتت الحالة العامة أقرب إلى إعادة توزيع الشرعية والمعنى بعيداً عن صيغ التعبئة الآيديولوجية التي كانت تتحكم فيها الجماعات الحركية العقائدية. كما واكب تلك التحوّلات تآكلٌ ملحوظ في فعالية نموذج الحكم التركي، وانكماشٌ في الحضور الإقليمي الإيراني تجلّى في سلسلة انتكاسات أصابت بعض حلفائه، ومنهم «حزب الله» و«حماس». وفي الوقت ذاته، أبدت القيادة السورية الجديدة، على الرغم من خلفيتها الدينية الدوغمائية- استعداداً متزايداً للتكيّف مع برغماتيات اللعبة الدولية المؤطرة بقواعد القانون الوضعي الإنساني. إجمالاً، دخلت المنطقة طوراً تعيد فيه ترتيب أولوياتها السياسية والاجتماعية على نحوٍ يُنهي هيمنة الخطابات الآيديولوجية المتخشّبة التي استنفدت أدواتها التفسيرية والتنظيمية.

كل تلك المتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية كانت تعكس مرحلة احتضار الخطاب السياسي لجماعة «الإخوان» وتيار «الصحوة»، وانكفاء رموزهما التاريخية، بالتوازي مع تلاشي برامج التعبئة التثقيفية التي شيّدت وعياً شعاراتيّاً وآيديولوجياً زائفاً، يمثل برنامج «سواعد الإخاء» مثالاً دالّاً عليه. ومن أجل درء اندثار هذا الخطاب وضمان استمراريته، برزت محاولات لإعادة إحيائه وتدويره عبر إسناده إلى وجوهٍ شابة من الفضاء الخليجي، جرى تلميع وتسويق أطروحاتها بوصفها امتداداً «مُحدَّثاً» للموروث الحركي، وفي محاولة يائسة لإعادة بث الحياة في هذا الخطاب المحتضر، بعد غياب رموز الجيل السابق من أمثال القرضاوي، والزنداني، والترابي، وغيرهم. ورغم أهمية هذه الأسماء الكبيرة اللامعة في تشكيل العقلية الحركية، فإنه من الواضح أن مقاربات نايف بن نهار تميل إلى الاصطفاف مع التصوّر القطبي من حيث بناء المفاهيم والتفريغ الدلالي لمعانيها: أي إعادة تعريف المفاهيم العقدية المركزية خارج سياقاتها السلفية الأصلية وربطها بمعطياتٍ معاصرة على نحوٍ توسّعي، تعيد تأثيم المجال العام وإخراج السلوك السياسي والاجتماعي من دائرة الدين.

فعلى خطى سيد قطب الذي صاغ مفهوم «الجاهلية» متجاوزاً سياقه ودلالاته السلفية التاريخية المرتبطة بفترة ما قبل الإسلام ليُسقطه على المجتمعات الإسلامية المعاصرة باعتبارها مفارقة لدائرة الإسلام، يعيد بن نهار إنتاج مفهوم «الشرك» ضمن نفس هذا النسق العقدي والدلالي، حيث قام بتوسيع نطاق الشرك من مجال توحيد الألوهية وإخلاص العبادة لله، ليشمل فضاء الامتثال اليومي لسلوكيات الفرد المسلم واحترامه للأنظمة والقواعد القانونية. وهو الأمر الذي أضفى على المفهوم طابعاً أكثر شمولية ليطول أبسط التصرفات الروتينية التي يمارسها المسلم في حياته. فنايف بن نهار يعتبر مجرد امتثال الفرد المسلم أو طاعته للقوانين والممارسات الاجتماعية أو التشريعية التي تتعارض مع آيديولوجية الجماعة شكلاً من أشكال الشرك بالله. ووفقاً لهذا الفهم، يتحول العديد من أفراد المجتمع، مهما بلغ التزامهم الديني، إلى مشركين إذا أطاعوا أنظمة وقوانين مدنية ووضعية. فمن منظوره الخاص، فإن المؤمن الملتزم بكل أركان الإسلام من شهادة وصلاة وصوم وزكاة وحج، ويعامل الناس بالحسنى، ولا يخدع ولا يكذب ولا يغش، يظل غير مكتمل الإيمان ومشرك بالله إذا أطاع هذه النظم القانونية.

وهذه النظم القانونية المدانة عقدياً -وفق تصوره- لا تنحصر في الأفعال الفردية فحسب، بل تمتد إلى منظومات قانونية ومؤسسية متعددة تشمل ترتيبات تمركز القواعد العسكرية الأجنبية، والأطر المصرفية القائمة على العائد الربوي، وسياسات استضافة الفعاليات الرياضية الدولية، والقيادات السياسية التي تغلب اعتبارات المصلحة الوطنية على الالتزامات الآيديولوجية. وضمن هذا الإطار التأويلي المُوسَّع «للشرك»، تحول المجال الاجتماعي والسياسي إلى شبكة كثيفة من التجريم العقدي الذي يشمل الفاعلين الحكوميين، والخاصّين، والروابط الاجتماعية التي تتغذّى من منظومة هذه المرجعية التشريعية وتعيد إنتاجها بما يفتح الباب عملياً إلى تكفير النظام السياسي وقطاعات عريضة من المجتمع. وما يلفت الانتباه بشكل خاص هو استمرار بن نهار في العيش داخل مجتمع يناقض الأفكار التي ينادي بها في كتابه «من العلمانية إلى الخلقانية»، رغم توفر خيارات أخرى للعيش في مكان أقرب إلى تصوره الفكري ونموذجه المثالي لإدارة المجتمع الإنساني، مثل أفغانستان، تأسياً برأي بعض الفقهاء الذين يوجبون الهجرة من البلاد التي لا تطبق شرع الله وفق تصوره الخاص.

وفي الإطار ذاته، امتد التفريغ الدلالي في خطاب بن نهار ليطول مفهومي «النصر» و«الهزيمة»، عبر تعريف عدمي وعبثي وغير إنساني من خلال ادعائه بأن «التكلفة الإنسانية» للمقاومة ليست ذات أهمية ولا تؤخذ في الاعتبار كمعيار للحكم على النصر أو الهزيمة. وبموجب هذا المنطق المضطرب، يبدو أنه لا يرى أي مانع في أن تمحو إسرائيل جميع الأطفال والأبرياء في غزة من الوجود متى عُدّ ذلك خادماً لخيارات قيادات حركة «حماس» أو غيرها طالما كان الاحتلال قائماً. وينعكس هذا المنحى في بنيةٍ حجاجية تقوم على مغالطة الثنائية الزائفة التي تفترض أن «مَن لم يكن مع غزة فهو حتماً ضدها»، في حين أنّ الوقائع الاجتماعية تُظهر طيفاً واسعاً من المواقف الإسلامية وغير الإسلامية التي تجمع بين تعاطفٍ إنساني صريح مع المدنيين في غزة ورفضٍ متزامن لنهج «حماس». ومن ثمّ، فإن اختزال المجال الأخلاقي والسياسي إلى معادلات «مع/ضد» يُفضي إلى تبسيطٍ شعبوي يُقصي الفروق الدقيقة بين التعاطف مع الضحايا ونقد أدوات الصراع السياسي وآلياته.

في المحصّلة، يمكن النظر إلى خطاب نايف بن نهّار بوصفه تجسيداً لما يشبه «الصوت الأخير للبجعة»؛ نبرةٌ إيقاعية آسرة ترافق طورَ الأفول أكثر مما تبشّر بدورةٍ فكريةٍ جديدة. فالحالة التي يعكسها هذا الخطاب تبدو قرينةَ انكماش المنظومة الفكرية للحركة التي ينتسب إليها بن نهار، على الرغم من استمرار ترويجها عبر منابر إعلامية متعددة ورفع شعارات التأييد لها. ورغم استعانة بن نهار بمرجعيات قطبية -في برنامجه القرآني الذي يستحضر أساليب سيد قطب «في ظلال القرآن» و«الفن القصصي في القرآن»، وفي النزوع إلى تعميم التكفير وإعادة حياكة المفاهيم خارج دلالاتها السلفية- فإنّ الإنصاف العلمي يقتضي عدم تماثله مع الأخير الذي جمع بين كاريزما شخصية، وقدرة بيانية، وموهبة أدبية مكّنته من تأسيس جماعة من المريدين شديدي الالتصاق بخطابه. وفي المقابل، فإن خطاب نايف بن نهار لا يتجاوز كونه مجرد «ثرثرة وفضفضة شعبوية» تكتنفها نظريات سطحية ومهلهلة تفتقر إلى التماسك المنطقي للأفكار. كما يغلب على خطابه الحشو والتمادي في الإطناب، مع ادعاءات متكلفة بالعلم والمعرفة، علاوة على ذلك، يتسم خطابه بسذاجة فكرية استثنائية، تترافق مع تناقض حاد بين تصريحاته التي يعبر عنها على مستوى التنظير، والواقع الذي يعيشه بشكل فعلي في مجتمعه. ويتعاظم هذا التناقض رغم توافر بدائل مكانية تكفل مواءمة أعلى بين خطابه وممارساته اليومية.