د. ناصر البقمي
أكاديمي سعودي
TT

استقطاب الكفاءات يتوّج بـ«نوبل»... قصة نجاح سعودية

استمع إلى المقالة

لم يكن القرار الملكي الصادر في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021 بشأن استقطاب الكفاءات ومنح الجنسية السعودية لأصحاب الخبرات النادرة خطوة لتجميل الصورة أو توسيع أدوات القوة الناعمة؛ بل كان تأسيساً لمشروع وطني يستثمر العقول والخبرات، ضمن رؤية تُدرك أن المستقبل تصنعه المعرفة لا الموارد فقط؛ وأن رأس المال البشري هو الثروة التي لا تنضب.

السعودية، وهي تعيد بناء موقعها ودورها في العالم، اختارت أن تجعل من الكفاءة الإنسانية محور نهضتها الجديدة. وبعد أربع سنوات فقط، جاء فوز العالم السعودي عمر ياغي بجائزة نوبل للكيمياء لعام 2025 ليؤكد أن هذه الرؤية لم تكن طموحاً نظرياً، بل كانت مساراً فعلياً أثمر عن أولى نتائجه المهمة.

مُنذ إطلاق برنامج استقطاب الكفاءات، كان واضحاً أن الهدف لا يقف عند استقطاب الأسماء اللامعة؛ بل في بناء بيئة علمية تُحفّز وتستوعب وتنتج. فالسعودية لم ترد أن تستورد المنجز العلمي من الخارج، بل أرادت أن تخلق ظروفه في الداخل. والعالم عمر ياغي يُجسّد هذا التحول؛ فهو أحد أبرز علماء الكيمياء في العالم، ومؤسس علم المواد المسامية الحديثة، وصاحب الأبحاث الأكثر تأثيراً في مجاله. لكن الأهم من سيرته العلمية هو ما مثّلته تجربته في السعودية: انتقاله من بيئة كانت تستهلك المعرفة إلى أخرى أصبحت تشارك في إنتاجها.

وتقوم السردية الوطنية لهذا البرنامج على استقطاب العلماء والباحثين والمُبتكرين وأصحاب الكفاءات النادرة والمُتميزين في المجالات ذات الأولوية والقطاعات الواعدة ومنحهم الجنسية، وفق آلية دقيقة ومعايير صارمة بعد دراسة سجلّهم العلمي وإنجازاتهم الفعلية. وهي سياسة تهدف إلى تعزيز البيئة السعودية لتصبح مركزاً جاذباً للعقول والابتكار، لا مجرد محطة عبور للمواهب.

في مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية (كاكست)، واصل ياغي تطوير أبحاثه في مجال الأطر العضوية المعدنية، مُحققاً نتائج رائدة في تخزين الطاقة وتحلية المياه ومعالجة الانبعاثات الكربونية، وهي الأبحاث التي وصفتها لجنة نوبل بأنها «إسهام نوعي غيّر مسار الكيمياء الحديثة». وبعد فوزه، عبّر عن امتنانه لولي العهد الأمير محمد بن سلمان ومدينة «كاكست»، مؤكداً أن الدعم الذي وجده في السعودية وفّر له بيئة حقيقية للتمكين والرعاية والاستثمار في العلم، وأن الرياض قدّمت نموذجاً لمناخٍ علمي يُقدّر الباحث ويمنحه الثقة والقدرة على الإنجاز.

تجربة ياغي تعيد تعريف مفهوم استقطاب الكفاءات؛ فالقرار لم يكن منحة فردية لعالم متميز فحسب؛ بل خطوة استراتيجية تهدف إلى تمكين العقول النادرة واستثمار خبراتها داخل منظومة وطنية تؤمن بالعلم أساساً للتنمية.

السعودية لا تسعى إلى جمع الأسماء اللامعة، بل إلى بناء بيئة مستدامة تُنتج المعرفة وتكرّس قيمتها. وقد أصبح هذا البرنامج نموذجاً لتحويل السياسة العلمية إلى ممارسة منتجة، ورافداً لمشروع الدولة الحديثة التي تراهن على الإنسان والعلم.

هذا التحول يعكس وعياً عميقاً بأن بناء القوة يبدأ من بناء العقل. فالدولة التي تستثمر في المعرفة تضمن حضورها في التاريخ، لا في الأسواق فحسب. واليوم، حين يرد اسم السعودية في قوائم «نوبل»، فإن المعنى يتجاوز فوز عالم واحد، ليشير إلى لحظة تحولٍ في الوعي المؤسسي نفسه: لحظة أصبحت فيها المُختبرات البحثية هي رهان الدول لمواجهة التحديات والمُتغيرات العالمية.

فوز عمر ياغي هو تتويج لمسارٍ طويل من إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمعرفة. إنه شهادة على أن الرهان على العقول هو الرهان الأذكى والأبقى. السعودية لم تغيّر فقط سياساتها العلمية، بل أعادت صياغة موقعها في خريطة الفكر العالمي، لتثبت أن الاستثمار في الإنسان والعلم هو الطريق الأفضل نحو المستقبل.