لم يدر بخلد مؤلف رواية «1984» الإنجليزي جورج أورويل أن تجسّد الصين ما تنبأ به من قوة قبضة «الأخ الكبير» (الحكومة) بحيث بدت السلطة هناك أكثر قُرباً من رؤيته مما في بلاده. خلاصة روايته الخالدة أنها تصور مجتمعاً تراقبه سلطة مركزية صارمة تلاحق تفاصيل حياة الأفراد وتتحكم في أفكارهم وسلوكهم.
وهذا ما يحدث - إلى حد ما - في الصين؛ حيث ذهبت أبعد من نظام الجدارة الائتمانية في أميركا وأوروبا الذي تؤهلك استقامتك المالية فيه للحصول على تسهيلات مالية أكثر. أمّا في الصين فقد وسّعت التكنولوجيا الدائرة بشكل غير مسبوق حيث قدمت «نظام الائتمان الاجتماعي» لمراقبة سلوك الأفراد والشركات ومن ثم منحهم تقييماً يشبه الدرجة الائتمانية، ولكن على نطاق سلوكي واجتماعي.
بعبارة أخرى، صار النظام يقيس بدقة التزام الفرد بالقوانين، وسلوكه في المواصلات، وسداده للفواتير، وغيرها ليمنحه نقاطاً أو يحرمه منها تبعاً لكل تصرف. وقد يترتب على انخفاض التقييم حرمان المواطن من السفر، أو القروض، أو تسجيل أبنائه في مدارس مرموقة، بينما يمنح أصحاب التقييم العالي امتيازات كتسهيلات مالية وفرص عمل أفضل.
كما يراقب النظام في الصين الشركات من حيث التزامها بالمعايير البيئية والضريبية، وجودة منتجاتها، وشفافية تعاملاتها، ليحدد مكانتها وفرصها في السوق. فقد تُدرج الشركات في قوائم بيضاء تؤهلها للفوز بالمناقصات وتسهيلات الائتمان، أو في قوائم سوداء تقيد وصولها للتمويل والمشاريع الكبرى.
نظام الائتمان الاجتماعي الصيني له محاسن، إلا أن تطبيقه في نواحٍ أخرى حول العالم قد يصطدم بعقبات دستورية وحقوقية واجتماعية. جميل أن يكون «للمواطن الصالح» امتيازات، لكن ذلك لا يعني أن تتتبعه الدولة في دقائق يومياته. فالإنسان بشر يخطئ ويصيب. هكذا خلقنا الخالق سبحانه، ولو لم نكن كذلك لذهب الله بنا ثم أتى «بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم»، كما في الحديث الشريف.
صحيح أن نظام تقييم أكثر من 1.4 مليار نسمة في الصين لا يتم مزاجياً أو يدوياً بل بشكل ديناميكي بواسطة ما تلتقطه التكنولوجيا والكاميرات الذكية للتعرف على الوجوه، إلا أن هناك أموراً تعد جيدة وبعضها لا أرى أنها تستحق التطبيق في بلدان أخرى. فالمواطن والمقيم الملتزم لا بد أن يكافأ أمّا غير الملتزم فمن الطبيعي أن يدفع ثمن ذلك عبر اللوائح والقوانين. شريطة ألا يصنف بأنه إنسان «جيد» و«سيئ» حيث يكفي المجتمعات حول العالم تصنيفاً مزق وحدتها.
المفارقة أن أحد مشاهير الإنترنت صُدم في تجربة اجتماعية، ترك فيها حاسوبه المتنقل لبضع ثوانٍ في إيطاليا وفرنسا وبريطانيا، فما لبث أن تعرض لمحاولة سرقة خلال أقل من 30 ثانية، في حين لم يُمس جهازه في الصين حتى عاد إليه بعد نصف ساعة. تذكرت هاتف «آيفون» جديداً كان بجوارنا في مكان عام في الكويت لم يلمسه أحد لمدة 3 ساعات، كنا نراقبه من مقهى مجاور.
هنا يثار تساؤل كبير: هل البشر يحتاجون بالفعل إلى كاميرات وأجهزة تتبع لسلوكياتهم، أم يمكن أن يكون المواطن صالحاً إذا كان الحد الأدنى من القوانين الرادعة مطبقاً مع شيءٍ من وازع ديني وأخلاقي؟
