جملة رهيبة محملة بدلالات كبيرة، وتأويلات مفتوحة، تلك التي ينقلها الروائي والناقد والباحث إلياس كانيتي - نوبل 1981 - في كتابه «ضمير الكلام» - دار رامينا، ترجمة كاميران حوج عن الألمانية - نقلاً عن شاعر مجهول، وجاء فيها: «لقد قضي الأمر. لو كنت شاعراً حقيقياً، لاستطعت أن أمنع الحرب».
كتبت هذه الجملة، كما يسميها كانيتي، وهي أكثر من ذلك بكثير، في الثالث والعشرين من مثل هذا الشهر، 1939، أي قبل أسبوع واحد فقط من اندلاع الحرب العالمية الثانية.
ويذكر كانيتي أن هذه الجملة «بلبلته»، في البداية، وأكثر من ذلك، شعر بالتقزز منها، وخاصة ورود كلمة «الشاعر» فيها لأنها شكلت، أكثر من غيرها «مطمحاً يقف على النقيض من إمكانات الشاعر».
لكن في الأيام التالية، ظلت تطرأ على ذهنه مراراً ومراراً، فيستحضرها، ويفككها، ويدفعها عنه، بلا جدوى.
وبغض النظر عن تحليل كانيتي لهذه الجملة، وهو تحليل لا يبدو مقنعاً كثيراً، فإنها تلخص لنا الإحساس بالمسؤولية الكبرى التي يلقيها المبدع على نفسه، ولنقل إنها من طبيعة وجوهر الإبداع الحقيقي، وإنها تستبطن روحه ولاوعيه من دون إرادة صاحبها.
هذا الشاعر المجهول لا يختلف عن المبدعين الحقيقيين عبر القرون. كان دوستويفسكي، كما يبرز ذلك في كل أعماله، منذ روايته الأولى «الفقراء»، مروراً برواياته الكبرى «الجريمة والعقاب» و«الأبله» وآخر أعماله «الأخوة كرامازوف»، يتملكه شغف واحد: إنقاذ العالم، ممثلاً بروسيا، من شروره وظلمه، وتفاهته ووضاعته، وقبحه وحروبه. وما يزال سؤاله المدوي المعلق منذ القرن التاسع عشر، يرن في آذاننا: هل ينقذ الجمال العالم؟ طرحه على شكل سؤال حائر، لكنه يتضمن كل عناصر الإثبات.
كل الكتابات الخالدة في التاريخ الأدبي يسكنها مثل هذا الشغف الذي يقترب من الهوس بتغيير المصير الإنساني، هذا الشغف الذي يسميه هيغل بـ«باثوس»، أي حين يتحول الموضوع إلى هوى شخصي معذب، كما يعذب الحب الأول العاشق، وقد يقود إلى الجنون! ولكن هذا الشغف وحده لا يكفي، إن لم يسنده الإيمان بقوة الكلمات، بتحمل مسؤولية الكلمات، والإيمان بقدرتها الأسطورية: «لو كنت شاعراً حقيقياً لمنعت الحرب». قد تبدو جملة متبجحة خالية من المعنى، بل مضحكة، لأنها وهمية، فكل كلمات الشعراء والفلاسفة والمفكرين لم ولن تمنع الحروب، وكل تغنيهم بالجمال لم ولن يمحو قبح العالم، لكن المبدع الحقيقي لا يصدق ذلك. ليس لأنه لا يريد، بل لأن تركيبته النفسية والروحية والأخلاقية لا تستوعب أن يستمر عالم كهذا للأبد، بالرغم من أن التاريخ أثبت أنه مستمر هكذا منذ فجر البشرية تقريباً، منذ قتل الأخ لأخيه، ومنذ أول مهنة قبيحة في هذا التاريخ، إلى حروبه التي لم تخمد نيرانها حتى الآن، والتفنن فيها الذي وصل إلى قتل الأطفال، ربما للمرة الأولى في هذا التاريخ التعيس، على يد وحش هائج كان بإمكان هذا العالم المقلوب أن يدفعه لو أراد.
الإبداع الحقيقي المقرون بالحلم والخيال والشغف بتغيير العالم لا يقبل الاستقالة أمام الوقائع الصلدة لهذا التاريخ، وهذا العالم الذي نعيش، وإلا ما يكتب هوميروس ودانتي، ودوستويفسكي وتولستوي، وييتس وإليوت وغيرهم أجمل ما في تاريخنا الأدبي الإنساني، وحملوا على أكتافهم مسؤولية الكون والعالم، ولهذا السبب ما زالوا أحياء بيننا رغم القرون، وسيبقون.
لقد حمل سارتر في إحدى مقالاته الكاتب هذه المسؤولية الثقيلة والمعذِّبة بقوله: الكاتب مسؤول عن كل شيء يحصل في هذا العالم!
وبالطبع، هو لا يعني المسؤولية المادية، بل الأخلاقية والإنسانية، أي علينا ألا نغمض عيوننا أمام الخراب الذي يستهدف الأرض والإنسان، أينما كان، ونستمر في صمتنا كأن الأمر لا يعنينا.
