قد يكون «الخطاب الشعوبي»، الذي انتشر في السنوات الأخيرة، من أعمق الخطابات السياسية، ولكنه كذلك من أسهلها وأوسعها وصولاً للشعوب. فهو يتغذى على حالة القلق الجمعي والخوف من المستقبل. فـ«الشعوبية» في جميع نسخها؛ يمينيةً كانت أم يسارية، تحتاج دائماً إلى «عدو خفي» أو «مؤامرة كبرى» لتفسر أزمات الداخل، فحين يتأثر قطاع الصناعة؛ فإن الذريعة هي الواردات الصينية الرخيصة التي تدمر المصانع، وحين يفقد شخص عمله؛ فإن السبب هو العمالة الأجنبية التي تسرق الوظائف، وحين ترتفع أسعار الطاقة؛ فإن شركات النفط وراء هذه «المؤامرة»... هذه كلها تفسيرات بسيطة وسهلة وتوجّه اللوم نحو عدو خارجي، وتعطي نوعاً من الهوية الجمعية تجاه عدو مشترك.
تَغذى هذا التوجه على سلسلة من الأزمات الاقتصادية التي لا تخفى على مطّلع؛ ابتداء من الأزمة المالية التي أثرت على جميع اقتصادات العالم، مروراً بـ«الجائحة»، ووصولاً إلى الحرب الروسية - الأوكرانية. وناتج هذه الأزمات في «الخطاب الشعوبي» أن الدول يجب أن تعتمد على نفسها بشكل كامل في ما عرّفه الكاتب بن شو بـ«المنفى الاقتصادي»، حين أصبح الانعزال الاقتصادي جذّاباً لبعض الدول... فحين يواجه المواطن نقصاً في الغذاء، أو ارتفاعاً في أسعار الوقود، أو انقطاعاً في سلاسل التوريد، فإن الخطاب الذي يَعِدُه بالاعتماد على الذات يبدو منطقياً ومريحاً، ويعيد إلى الأذهان صورة «الوطن القادر على سد احتياجاته» دون الحاجة إلى الخارج، ويثير ذلك شعوراً بالفخر والسيادة، في وقت يزداد فيه شعور الشعوب بأن «العولمة والشراكات الدولية» قد جردتها من مصائرها الاقتصادية.
هذه الرغبة الجامحة في الاكتفاء الذاتي الكامل ليست جديدة، وقد كتب عنها كثيرون، ويشهد التاريخ على فشل عشرات المشروعات التي استهدفت اكتفاءً ذاتياً بعد أن استنزفتْ مواردَ على مدى سنين طويلة. فلا يمكن لدولة، أياً كانت، أن تنتج جميع ما تحتاجه بكفاءة وتكلفة تنافسية. وإن حاولت دولة فعل ذلك، فستنفق موارد هائلة، وقد يؤدي ذلك إلى ارتفاع في الأسعار وضعف بالكفاءة، وبالطبع، فإن العزلة الاقتصادية ستكون النتيجة لذلك، إن لم تكن هي الهدف من هذه السياسات في الأصل.
وتجب التفرقة هنا بين «المنفى الاقتصادي»، و«التحوّط من التقلبات العالمية»، ففي حين أن السياسات تتشابه فيما بينهما، فإن الإفراط في بعض هذه السياسات هو الحكم في ذلك، ففرض الرسوم على الواردات الأجنبية قد يكون منطقياً لدعم بعض الصناعات الوطنية، حتى مع وجود بدائل لهذه السياسات، مثل المشتريات الحكومية وغيرها، ولكن رفع هذه الرسوم بشكل يفقدها التنافسية، قد يتسبب في نتائج عكسية، مثل ارتفاع الأسعار على المستهلك النهائي. كما أن سياسةَ إنشاء احتياطات استراتيجية من السلع الحيوية ضروريةٌ للتحوط من التقلبات المؤقتة، ولكن الإسراف فيها يأتي على حساب مشروعات أخرى قد تكون أهم من الناحيتين الاقتصادية والاستراتيجية.
والاستثمار في القطاعات الاستراتيجية ضروري بكل تأكيد، فلا يمكن لدولة أن تترك مصيرها للسوق العالمية، في أسواق مثل الطاقة والغذاء والتقنيات الحساسة، ولكن هذا الاستثمار لا يعني الاكتفاء الذاتي المطلق، بل بناء قدرة محلية أساسية تتيح التفاوض من موقع قوة لا من حالة انكشاف، ويوصل ذلك إلى ضرورة التوازن بين الاعتماد الكلي على الواردات منخفضة التكلفة، وبين الانعزال التام والرغبة في توفير البدائل محلياً. وقد يكون الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي مثالاً على ذلك، فقد اعتمدت القارة بأكملها على أنبوب غاز من روسيا، وحين ساءت العلاقة مع روسيا وقعت أوروبا في المأزق... وبالطبع، فهذه الحالة محببة إلى «الخطاب الشعوبي» الذي يراها مثالاً على ضرورة الاعتماد الداخلي، بينما هي في الواقع شاهد على أهمية وجود بدائل متعددة. والتحوط في هذه الحالة كان يستدعي بناء الشراكات في جميع الاتجاهات، مع التأكد من وجود قدرات داخلية. ولو أن الدول الأوروبية طوّرت بناها التحتية في الغاز المسال منذ وقت مبكر، لما وقعت في أزمة الطاقة خلال السنوات القليلة الماضية، ولما استطاعت روسيا الضغط عليها بالغاز.
إن «اقتصاد المنفى» ليس إلا انعكاساً لمخاوف مشروعة من الاعتماد المفرط على الخارج، لكنه لا يقدم حلاً واقعياً ولا نموذجياً قابلاً للاستدامة... وحدها السياسات التي تمزج بين تعزيز القدرات الوطنية والانخراط في الاقتصاد العالمي يمكن أن تضمن استقراراً حقيقياً ونمواً مستداماً. والهروب إلى «المنفى الاقتصادي» قد يبدو مخرجاً سريعاً في لحظة أزمة، وهو حل مؤقت لبعض حالات الغضب الشعبي التي تواجهها بعض الحكومات، ولكنه في الواقع طريق مسدودة تهدد مصالح الشعوب، وهو يفرض تكلفة كبيرة على المنتجات الاقتصادية، والخروج منه مكلف أكثر من الدخول إليه، وقد يعيد الدول سنوات إلى الوراء في شراكاتها التجارية التي تعطيها ثقلاً دولياً على المستويين الاقتصادي والسياسي.
